عبدالوهاب الفايز
ما زال الحديث هنا حول مظاهر الفساد التي تؤدي إلى انفلات النظام الرأسمالي.. وأخطر مظاهر هذا الانفلات بدت إثارة في تفاوت الثراء والفقر في العالم، بالذات في معقل الرأسمالية، أمريكا وأوروبا. الصور المتجددة لهذا الانفلات نجدها الآن في تجاوزات (مستغلي التواصل الاجتماعي)، فهؤلاء النجوم الجدد يجدون بحبوحة العيش وتراكم الثروة في الفضاء الاستهلاكي الذي لا يعرف الحدود. هذا الخوف من الانفلات هو الذي جعل الناس هنا في المملكة ترحب بقرار وزارة التجارة الأخير لمعاقبة عدد من مشاهير التواصل الاجتماعي، في مخالفات (تندرج ضمن أنشطة إغراءات الكسب السريع غير المشروعة). فالقرار حظي بتأييد وترحيب واسعين رأيناهما في سرعة تبادل الخبر بين المجموعات، وكانت معظم تعليقات وتحليلات اعضاء المجموعات تتخوف من مخاطر هؤلاء المخربين على المجتمع، خصوصاً المراهقين والصغار.
في مقال الأسبوع الماضي حول (الرأسمالية المتوحشة) في هذا المكان، ذكرنا أن أسوأ مظاهر الرأسمالية المنفلتة المستجدة نراه في تطور التواصل الاجتماعي الذي فتح الحدود وأزال العوائق أمام حرية الأفراد وغرائزهم، فـ(المؤثرون في التواصل الاجتماعي)، نرى في سلوكهم صورة لانفلات الرأسمالية، بالذات حالة الجشع ورغبة الثراء السريع. لقد وجدت فيهم الشركات الكبرى فرصتها لتسويق المنتجات الطبية والتجميلية الضارة، وهذه ممارسات توصف بالفساد المالي والأخلاقي.
تطورت الظاهرة السلبية لصناعة المنتجات الثقافية الاستهلاكية مع تحول وسائل الإعلام إلى استهداف الربح والتكسب المالي المقدم على تحقيق الأثر الإيجابي على حياة الناس. معاناة الناس واحتياجاتهم وهمومهم اليومية تتحول في فضاء الثقافة الاستهلاكية إلى سلع ومنتجات للبيع.. وهنا بدأت الحاجة إلى صناعة النجوم (مؤثرين ومذيعين ومقدمي برامج) ليكونوا منتجات تباع عبرهم المصالح والأهداف السياسية والتجارية. التواصل الاجتماعي يأخذ هذه الظاهرة إلى الآفاق الجديدة الخطيرة.
ثمة مفارقة عجيبة هنا، فالحكومات التي تتخوف من مخاطر التواصل الاجتماعي على السلامة العامة وعلى مقومات أمنها القومي، وتضطر لدفع الضريبة السياسية نتيجة ملاحقة المؤثرين المنفلتين ومحاكمتهم وسجنهم، هي نفس الحكومات التي بنت هذا العملاق الاجتماعي المتوحش. لقد رأينا كيف استخدم الرئيس الامريكي دونالد ترمب حسابه على تويتر لإدارة الدولة! وكانت المفارقة العجيبة أن يتم إيقاف حساباته في منصات التواصل الكبرى بحجة (خطره على الأمن القومي)، بعد اكتساح مناصريه مبنى الكونجرس في 6 يناير الماضي.
لقد حظيت وسائل التواصل الاجتماعي بالدعم الحكومي عبر استخدامها من قبل السياسيين وصناع السياسات. وأهم دعم لها جاء من الانفاق على صناعة المحتوى الموجه للتواصل الاجتماعي، فقد دُفعت مبالغ طائلة على الإعلانات الصريحة أو على المحتوى الإعلاني المخفي من مختلف الجهات الحكومية والخاصة، وذهب أغلب الدعم لأمور تستهدف السيطرة والتوجيه للرأي العام، وللتأثير على المستهلكين. ماذا لو أنفقت مئات الملايين على التربية الوطنية، وعلى قصص النجاح، وعلى الافكار الايجابية لتعليم الناس مهارات مواجهة الازمات ومشاكل ومصاعب الحياة، والتخطيط السليم للمستقبل، وتعزيز مكارم الاخلاق، أي صناعة محتوى إعلامي ينفع الناس بدل إثراء المشاهير!.
ربما هناك البعض لا تستسيغ ذائقته الإعلامية أو تربيته الثقافية الليبرالية (واسعة الذمة) مثل هذا التصور للبعد التربوي الانساني للتواصل الاجتماعي والإعلامي. أحد المظاهر السلبية للتواصل الاجتماعي المعززة للرأسمالية المتوحشة نراها في تأثيرها القوي على تأسيس الاتجاهات النفيسة المتسامحة مع نزعة المنافسة غير الأخلاقية في الإعلام. فالآن تنطلق روح التوحش لتوسيع ظاهرة الإعلام التجاري! هذه النزعة بدأت منذ دخول وسائل الاعلام منطقة المنافسة مع التواصل الاجتماعي مضحية برأسمالها القوي وهو (المصداقية) التي بنتها لاسمها التجاري.
الآن بعض وسائل الإعلام تجد في علامتها التجارية مصدرًا جيداً للدخل عبر وضع اسمها، مقابل المشاركة في الربح، إلى جانب منافذ المحتوى الاجتماعي والصحي والخيري، وحتى التجاري. (استثمار المصداقية) جاء نتيجة تدفق المعلومات الرهيب الذي يتلقاه الناس من التواصل الاجتماعي، فالناس لن تستطيع بسهولة التمييز بين الاخبار والمعلومات الصحيحة من المكذوبة. وهنا توجد الفرصة الاستثمارية للمؤسسات الصحفية والاعلامية التي بنت عبر السنين الطويلة سمعة وعلاقة طيبة مع جمهورها.
بقي القول ختمًا للحديث: من الصعب مقاومة إغراءات الثراء السريع السهل، فالطبيعة البشرية غلابة، فحب التملك والسيطرة والطمع تشكل قوة دافعة للبحث المستمر، وللتوسع والنمو المهلك للطبيعة ولأرواح البشر، وهذه العقيدة تأخذ البشرية إلى رأسمالية المحسوبية والتوحش. وهنا تأتي خطورة التواصل الاجتماعي الذي أوجد للمتكسبين وللانتهازيين فرصة الوصول السريع المتزامن إلى القواعد الشعبية وإلى رأس المال. ربما هذه تحدث لأول مرة في التاريخ.. وربما هي التي تجعل الثروات تقفز بشكل غير مسبوق بأيدٍ قليلة، والفقر يتوسع وينمو بخطى ثابتة!.