علي الخزيم
يكثر في وسائل التواصل الاجتماعي عند نَعي أحد المتوفين أن يَذكر الناعي أولاً أن المتوفى صاحب جود وكرم، وإن كان جندياً يُضيفون الشجاعة لسجلِّه المحمود، ثم في الغالب تأتي بقية المحامد من البر بالوالدين وصلة الرحم وغيرها، فالملاحظ أن الكرم وبذل الجاه كثيراً ما يُقدَّم على غيره بكثير من مجتمعاتنا العربية، وهو ميراث من القرون العربية الأولى فلا عجب؛ بل فخر وسمو وتعهد بالمزيد! ومن المتابعة يظهر أن مجتمعات غير عربية كالغربية مثلاً تُبْرز نواحي مختلفة عن المتوفى فهي ثقافات تتباين بالمعايير والمفاهيم، غير أن العربي حين يعتز بسجِيَّة الكرم ويتمسك بها فهو لا يُهمِل مزايا أخرى يمارسها المجتمع كالفروسية والتزاين بالخيل والإبل، وقبل كل ذلك التباري بالشعر الرصين والتحاكم لأرباب المعرفة في الموروث الأدبي الشعري والقصص العربي كما في سوق عكاظ وغيره، وتحكيم فحول الشعراء لقصائد جزلة تُعرض عليهم وإجازتها، لكن كل هذا تصاحبه وتُغلِّفه سجيّة لا تغيب هي الكرم والسخاء قديماً وحديثاً كسلوك مُتجذِّر بكيان الإنسان العربي زرعته شُم النفوس وباسق العقول الأولى، وجاء الإسلام العظيم ليثبت ويُقر مثل هذه المحامد العربية العريقة، غير أنه قد نهى عن السرف والعطاء رياءً وعن المَنّ بعد العطاء، فالتوازن بمجالاتها ركيزة أساس لتبقى هذه المعاني السامية وتدوم كما أرادها العرب، فرسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- متمِّمة لمكارم الأخلاق، وبقي السخاء رمزاً للقادة والسادة، يقول ابن المقرب العيوني:
(كُلُّ السِيادَةِ في السَخاءِ وَلَن تَرى
ذا البُخلِ يُدعى في العَشيرَةِ سَيِّدا)
وللسخاء عند العرب عامة وأهل الخليج خاصة معان أشمل كإغاثة الملهوف والوقوف مع المحتاج وجبر انكسار الكرام بالمبادرة دون طلب منهم، وفي (مملكة العزم والحزم والإنسانية) مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية؛ وهو غَنِيّ عن القول والتفصيل هنا عن أنشطته وأعماله الخيرية بالداخل والخارج التي تتم بسخاء ودون إطراء أو مَنّ أو ترويج سوى ما تنشره القنوات الإخبارية كمتابعة عابرة كغيرها من الأنشطة والأحداث اليومية، ويمكن الالتفات إيجابياً لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- بإجراء عملية فصل (التوأم الطفيلي) اليمني قبل أيام مضت؛ لتضاف لعشرات العمليات المماثلة السابقة لتوائم ملتصقين من22 دولة في 3 قارات، وكل ذلك دون ذكر لحجم التكاليف أو تضخيم لهذه الأعمال الإنسانية النبيلة، كما يشار إلى جسور الدعم التي يقدمها البرنامج للأشقاء والأصدقاء للمساعدة في مكافحة وباء كورونا، وتتضمن برهاناً قاطعاً (ببعض أحوالها) على كرم المملكة وتسامح قيادتها الحكيمة التي وقفت حتى مع من كان بالأمس له موقف قد يكون غير مرض للمملكة؛ فتثبت حنكة ملك الإنسانية والعزم أن القيادة ممارسة حقيقية تتدثَّر بالعدل والوفاء والاتزان؛ وتنبذ التهريج السياسي والإعلامي والتحالفات الزائفة! ألم أقل إن السخاء عنوان عربي وإسلامي!
وفي الخليج العربي حين ندعو الضيف نعرض عليه القهوة دون تصريح بالطعام فهو تابع للقهوة رمز الضيافة، وللفارس الكريم الطُّفيل الغنوي:
(لِحافي لِحافُ الضَيفِ وَالبَيتُ بَيتُهُ
وَلَم يُلهِني عَنهُ غَزالٌ مُقَنَّعُ
أُحَدِّثُهُ إِنَّ الحَديثَ مِن القِرى
وَتَكلَأُ عَيني عَينَهُ حينَ يَهجَعُ)