قبل حوالي ثمانين عاماً بدأت العلاقة الأخوية الفريدة بين والدي عبدالله بن عمر بن نويعم -رحمه الله- ووالدنا الشيخ ثنيان بن فهد الثنيان -رحمه الله-.. علاقة صداقة وأخوة دامت عشرات السنين إلى أن توفي والدي -رحمه الله- قبل عشرين عاماً، كان الوفاء عنواناً لها، فقد تعلَّم والدي على يديه كأب وأخ أكبر ورجل ذي مكانة مرموقة لدى الأسرة المالكة وكافة أطياف المجتمع بالرياض ذلك الوقت تعلَّم جملة من السمات النبيلة والخصال الحميدة والسجايا الكريمة وأساليب التعامل مع شرائح المجتمع المختلفة.. ولاسيما أن والدنا الشيخ ثنيان بن فهد قد كان مسؤولاً عن الشؤون الأسرية للأميرة حصة بنت أحمد السديري والدة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- وإخوته الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- وبقية إخوته وأخواته. فقد حظي والدي -رحمه الله- بالعمل لدى الأسرة المالكة ذلك الوقت بفضل أخيه الأكبر الشيخ ثنيان بن فهد وهو في سن السادسة عشرة من عمره وكان قريباً منه، حيث يرافقه طوال الوقت وجمعتهما الكثير من المواقف التي تبيَّن من خلالها أصالة المعدن الذي جُبل عليه الشيخ الوالد ثنيان بن فهد، فعندما رغب والدي في الزواج في السبعينيات الهجرية استشاره بصفته الأخ الأكبر والشخص المقرَّب له فبارك ذلك ورافقه في إجراءات الخطبة والزواج، وقد كان سنداً له طيلة فترة حياته، فبادله والدي الحب والوفاء الصادق، ومن ذلك يوم أن رُزق والدي بأحد أبنائه بادر - وبلفتة وفاء جميلة- بتسميته (ثنيان) فأصبحت من يومها يناديني الشيخ الوالد ثنيان بن فهد -رحمه الله- (بالسميّ) ولقد سعدت دوماً كون والدي قد أسماني على رجل قلَّ نظيره وفي موقف يحمل جميع معاني الصداقة والوفاء والمحبة الصادقة.
وكان والدنا الشيخ ثنيان بن فهد كريماً معطاءً نبيلاً، ولطالما عرف طيلة العقود الماضية بخصلة متفرِّدة وهي السعي للشفاعة لكل من لجأ إليه للمساعدة في طلب عمل أو أي أمر من أمور الحياة، ليس بالمراسلة والكتابة فحسب وإنما بالذهاب بنفسه لقضاء حاجة الشخص الذي طلبه ولجأ إليه، وهذا طيلة حياته.
وقد حظي -رحمه الله- بالتقدير والاحترام من قِبل الملوك والأمراء ووجهاء المجتمع، وفي يوم ما كنت في الثامنة عشرة من العمر وقتها كان صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز -رحمه الله- ضيفاً كريماً في منزل الشيخ الوالد ثنيان بن فهد، وأتذكّر ذلك الموقف عندما نزل سموه -رحمه الله - من سيارته استقبله الشيخ الوالد وقال له (غلبتنا بكرمك يابو خالد الله يطول عمرك وجيتنا في محلنا)، فرد عليه سموه مبتسماً قائلاً: (ومن يغلبك يابو فهد).
وكان الشيخ الوالد ثنيان رجلاً اجتماعياً بكل ما تعنيه الكلمة فقد حرص على حضور أكثر المناسبات الاجتماعية في أفراحها وأتراحها وشارك من يزورهم بكل مشاعر الود والاحترام ولين الجانب، ورغم تقدّمه في السن إلا أن روح المشاركة الإيجابية التي يملكها طوال حياته كانت تدفعه إلى التحامل على ذاته وحملها على مشاركة الآخرين والمجتمع بفعالية وحيوية.
وأتذكَّر عندما كنت عضواً في المجلس البلدي لمدينة الرياض في دورته الثانية قبل حوالي سبع سنوات مضت كنا نحضر حفل التدشين التجريبي لمشروع شبكة تقاطع طريق العروبة مع طريق الملك عبدالعزيز وطريق أبو بكر الصديق، وكانت الساعة العاشرة صباحاً فإذا بالشيخ الوالد ثنيان بن فهد يحضر الحفل للمشاركة في هذه المناسبة والصعود في الحافلة لأخذ جولة على المشروع فأقبلت عليه مسلِّماً ومحتفياً، وسألته (يا والدنا لماذا عنّيت نفسك) فأجابني مبتسماً: (يا ولدي فرحتي بهذا المشروع اللي كنت أتمناه من زمن خلتني أجي وأشارك)، فقلت له (شباب يابو فهد الله يطول عمرك)، فرد علي قائلاً: (ما هنا شباب يا ولدي ولكنه حب البلد وحكامه)، بهذه الإجابة البسيطة سطَّر الشيخ الوالد ثنيان أجمل معاني حب الوطن والولاء والإخلاص له ولقيادته العظيمة، وبهذا المنهج الذي سار عليه طوال حياته ومنحته كل هذا التقدير والإجلال من الجميع.
كان -رحمه الله- محباً للقراءة والاطلاع ويملك في منزله مكتبة ضخمة جمع فيها عدداً كبيراً من الكتب والمخطوطات في شتى المعارف وكان ميالاً لمتابعة الصحف اليومية وقد كنت أزوره في أيام متفاوتة وأتناول معه الغداء وأجلس معه للحديث فأجده رجلاً مليئاً بالثقافة والمعلومات وراصداً لتاريخ مدينة الرياض ونشأتها وتحولاتها الرهيبة خلال عدة عقود، وكان حريصاً على الاطلاع على كل المستجدات في المجتمع.
وكان -رحمه الله- رجل أعمال من الطراز الأول ولاسيما أن جميع أعماله في إطار الأمانة والشفافية والتعامل الصادق وتربطه برجال الأعمال الكبار في الرياض علاقة المودة والصداقة الدائمة، وقد كانوا يرتادون مجلسه باستمرار ويحضرون مناسباته ويشاركونه في دواوينه المختلفة.
وقد كان الشيخ الوالد ثنيان بن فهد رحيماً مع الصغير والكبير وأتذكَّر موقفاً جميلاً عندما كنت في العاشرة من عمري كنا في مخيم بريّ أقامه الشيخ الوالد في العمارية ودعا إليه عدداً من عوائل وأسر أقاربه وأصدقائه المقربين، وكنت ألعب بالكرة الخاصة بي، وجاء الأولاد الذين يكبروني سناً وأخذوا الكرة، وقد كان الشيخ الوالد ماراً بالقرب منا، فصاح بهم وأخذ الكرة وأعطاها لي وقال (كل شي إلا السمي)، فكنت مسروراً وقتها أيما سرور بهذا الموقف المؤثّر.
وكان مجلسه -رحمه الله - يعج بالزائرين طيلة العقود الماضية منهم الأمراء والوجهاء ومختلف شرائح المجتمع وأطيافه الذين يجمعهم حب الشيخ الوالد واحترامه وإجلاله.
فلطالما كان مجلسه عامراً بالحديث المتنوّع المليء بالثقافة والعلم وتداول أمور المجتمع.
كما كان مجلساً لحل المشكلات وإصلاح ذات البين في كثير من الخلافات التي تقع بين المتخاصمين من أقاربه ومعارفه وأصدقائه.
كان الشيخ الوالد ثنيان بن فهد تربوياً من الطراز الأول، فقد كنت أتابعه وأنا في سن صغيرة كيف كان يعامل أبناءه فقد منحهم الثقة في النفس بشكل استثنائي واتبع في ذلك أسلوب التربية بالمحاكاة، واتضح ذلك وتبيَّن جليّاً من خلال سلوك أبنائه وتربيتهم ويبرز ابنه فهد بن ثنيان الأخ والصديق الغالي هذا الشاب الطموح المحبوب البار بوالديه والذي جمع الصفات الحميدة والشهادة المجيدة التي حفظها له الجميع.
فقد كان أخي الغالي فهد ظلاً لوالده يرافقه طوال اليوم ويحنو عليه في فترة مرضه وعجزه، وكان يبذل كل ما في وسعه لإدخال السرور على والده فقد كان وبعد تناول الغداء وصلاة العصر يرافقه إلى مزرعته بالعمارية لتغيير الأجواء وإضفاء روح جديدة تبعث فيه السرور وتجدد نشاطه.
لقد بذل ابنه فهد بحق -وهذا من فضل الله عليه- جهداً ميموناً وبراً عظيماً مع والده وهنا يتجلَّى حسن التربية وصلاح الأب. ورغم مشاعر الحزن العميق الذي ينتابني إلا أني تارةً أحسست بالغبطة عندما رأيت هذا الكم الهائل من مشاعر الحب والوفاء من القاصي والداني من الكبار والصغار من الأمراء والمسؤولين والوجهاء وحتى البسطاء الذين شاركوا بعزائهم وكلماتهم الصادقة في تأبين والدنا الشيخ ثنيان بن فهد الثنيان الذي كان نبراساً في البر والخير والصلاح وقلوبنا يملؤها الحزن والأسى على فراقه بقدر ما يملؤها الصبر والاحتساب.
رحم الله والدنا الشيخ ثنيان -رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ونسأل الله أن يغفر له ويتقبله في الصالحين ويجمعنا به ووالدينا في جنات النعيم.
** **
د. ثنيان بن عبدالله النويعم - رئيس مجلس إدارة مجموعة روافد المعرفة التعليمية