الأديب الأريب عبد الله محمد صالح باشراحيل.. شاعر ملهم، وكاتب مصقول، سفير علم وثقافة وأدب ونقد دواوينه ذائعة، وقصائده شائعه، ومواهبه متدفقة.
ولد شاعراً بموهبة فذة، ولغة فردة، وخيال مجنح ولسان مفصح، بوزن وقافية، واسترسال واستبسال، وإمتاع وإبداع، وروعة ونماء وصفاء:
أنا الذي نظر الأعمى إلى شعري
وأسمعت كلماتي من به صمم
لله دره، فكم تألق في معشوقته (مكة) فحدثها وتحدث عنها، وأطربها وطرب لها وما ظنك بشاعر يقول في معشوقته عشرات تلو العشرات من القصائد اللامعات، ثم جمعها بين لابتىّ أثني عشر ديواناً شعرياً نابهاً، هو الشاعر الغزل العفيف هياماً وتهياماً وشوقاً واشتياقاً.
لقد طربت مكة بشعره، وبادلته حباً بحب، وصبابة بصبابة، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده، ولا الصبابة إلا من يعانيها، وقديماً كانت العرب كما حدثنا الأديب الذائع ابن رشيق القيرواني في كتابه التحفة العمدة في الشعر أنه إذا ولد فيها شاعر دقت الطبل، وهزت الصنج، وأرقصت الخيل فرحاً واستبشاراً بميلاد شاعر فيها، لأن الشاعر هو ديوان العرب، وتاريخ القبيلة، وصحيفة وإعلام حي ناطق يجمع بين ماضي الأمس، وحاضر اليوم، ومستقبل الغد.
ولقد تفنن النقاد النبهاء، والدارسون النبغاء بترديد شعر الشاعر الفحل عبد الله محمد باشراحيل والإشادة بنشيده، والإبحار في رجزه، وأبدعوا في هذا وذاك، وتألقوا في تيك وتاك، وترنموا في شعره وشاعريته وسطروا فيه كثيراً من الدراسات والمباحث والمقالات.
هو متيم مكة، لا يستبدل بها حبيباً، ولا ينأى عن مضاربها عشيقاً.
أقدم قرباناً إليك شواردي
فكم من مغن يصطفيها ومنشد
فلو سبقت حيناً من الدهر لم يكن
يغني بها غير الغريض ومعبد
يقول فيه الدكتور النابه محمود حسن زيني ما ما هتيه:
(.... وتضاف..... للشاعر شهادات لرواد الحركة الأدبية والشعرية في بلادنا من أمثال الشاعر الكبير الوطني حسين عرب الذي اعتبر الباشراحيل «شاعراً موهوباً، مكتمل الأدوات الشعرية» وكذلك نرى شهادة شاعر مكي كبير له وزنه الشعري بين الرواد وهو الشاعر حسين سرحان الذي يري في ديوان الباشراحيل «خير سمير... بما حفل به من المعاني الرقيقة واللمحات الجميلة والتدفق نحو الأسمى والأفضل».
أما تنوع شعره وبراعته في هذه الشاعرية الفذة التي أعجبت الكثير من النقاد فإنها فسرت من قبل ناقد أكاديمي شهير عميد كلية الآداب بالإسكندرية ألا وهو أ. د. محمد مصطفى هدارة فقد فسر هذا «التنوع في شعره ((بأنه)) تهديه إليه فطرته الشعرية، وصدق إلهامه وحرارة تجربته الشعرية، وحسه الموسيقي المرهف الذي لا يتمثل لنا في تنوع البحور فحسب بل في جمال الإيقاع الداخلي وحلاوة النغم» وصدق فيما قال فإن ذلك من سمات شعره الرئيسة، مما جعله أهلاً لأن يكون سائراً ضمن ركب الرواد في الشعر المكي المعاصر).
مكة معشوقة الباشراحيل لا يحيد عن هذا العشق قيد أنملة، والسؤال الذي يطرح نفسه متى عشق الشاعر مكة وتعلق بها هذا التعلق؟
وهو تعلق أيما تعلق وتكبيل أيما كبل به نفسه من صبابة وهيام وحب، وما أجمل قيود الصبابة وهي ضاربة في ثرى مكة، وقد كان الشاعر عبد الله باشراحيل لماحاً في شعره، تواقاً لأسئلة المتذوقين لشعره، الطاربين لنغمه، فهو يقول لهم بكل براعة:
حبيبتي فرحة الأيام ناعمة
بين البرود وبين الزهر والرند
رأيتها قبل ميلادي مقدسة
حبيبتي من زمان الأب والجد
رأيتها قبلة الأنظار سامقة
ومشعلاً لفؤاد الصدق والرشد
عاطفته جياشة منقطعة النظير، وحنينه دوماً ما يكون متوقداً مشبوباً، يخاطبها ويناجيها ويثبها شجنه وحبه، لأنها موطنه الآمن، ومسكنه الدافئ فيترنم لها
أم القرى يا حلمنا المأمولا
إنا قضينا في ربوعك جيلا
إنا عشقنا فيك أيام الصبا
فلكم لهونا في الدروب طويلا
كان البعاد عن الديار تطلعاً
للعلم لا نرجو سواك بديلا
هيهات أن ألقي كمثلك منزلاً
في العالمين وما أردت بديلا
فلا أنت أرض الله يعرفها الذي
قرأ الكتاب وأدرك التنزيلا
وقصائد الباشراحيل- زادة الله - تلد المعاني تلو المعاني، مُفتقة كأزاهير الحقل، ومتفجرة كينابيع الروض، ولم يكن ليقف عند هذا الحد، بل بلغ في هيامه حتى الثمالة، فحينما اختيرت عاصمة للثقافة في عام 1426هـ - 2005م الميمون الطالع، كان المشرف العام على لجنة علمية أدبية ضمت بين برديها علماء أجلاء، وأساتذة نبغاء، وكتاب نبلاء، جادت فطرهم، وتمخضت عن موسوعة كبيرة، سلف عنوانها قبل قليل، ويحدثنا الشاعر الباشراحيل قلباً وقالباً جلالاً وجمالاً فيقول: (هذا المؤلف.. مكة الجلال والجمال) بجزئيه هو بعض نوازع الوعي الإنساني في تسجيل حقبة من الزمان، لابد وأن تكون حبلاً متواصلاً يربط الماضي بالحاضر، لتشهد مكة على فصول الدهر، وتاريخ الأمم، والمدائن بحكم أنها عاصمة الرسالة المحمدية، وإشعاع الحضارة الإنسانية، وهي التي تكتب الأسماء والأوطان وتنفي الفسوق والبهتان. هي أجمل قصائد الشعراء ومهوى قلوب العلماء وملاذ الضعفاء وفخر المسلمين الذي لا فخار لهم قبله ولا بعده، فقدسية مكة وعظمتها هبة من الله لتأصيل معنى الوجود الإنساني، وتنظيم سبل العيش، وترشيد لغة العقل في سبيل تحقيق القدوة المثلى للمسلم، وإطلاق نسائم الفكر الخلاق ليعبر مسارات الآفاق بعقلية المتبصر المتدبر في إعجاز الله وقدرته سبحانه، لكشف مغالق الكون والتحاور مع نبض الأشياء).
وعن مكة المكرمة عاصمة الثقافة لعام 1426هـ - 2005م يقول: (هي عاصمة الثقافة الإسلامية ديناً ودنيا، إليها تشد الرحال، وفيها تطمئن النفوس، وبها ترتفع الأمم، وإليها تخلص النوايا ولديها تصدق الضمائر، ولا أدلُّ على انفتاحها الثقافي والأدبي من الاحتفاء بالشعر الذي علق على جدران الكعبة، وسمى بعد ذلك بالمعلقات، وقيام أسواق عكاظ وذي المجنَّة وذي المجاز في العصر الذي كان يُسمى بالعصر الجاهلي.
طبت مكة وطاب أهلوكِ ومحبوكِ وزائروكِ، ومن عمل لإعلاء كلمة الله، ومن بذل عمره في السعي إلى رفعة شأن الإسلام والمسلمين، بوركتِ يا دارة الشموخ والعزّة).
مكة هي أم القرى، والأوطان والآمال، هي أنشودة الزمان، وترنيمة المكان، وقيثارة الآوان، لقد كان الحديث في هذا الكتاب شيقاً والذي يقع الجزء الأول فيما يقارب خمسمائة صفحة من القطع الكبير، وجادت به الأنامل الذهبية للمؤسسة العربية للدراسات والنشر الكائنة ببيروت العامرة، حيث تبارى على فروسية مضماره ثلة من الأدباء والنقاد الفضلاء، جاءت أطروحاتهم مرسومة بأجمل الكلمات، وأسمى العبارات، وكُللت سطورهم بمعارف بليغة، واستنارت بإشارات مضيئة، طبت مكة، وطاب ما كتب عنك، واستطاب هؤلاء الأعلام الذين صالوا وجالوا ومتعوا وأمتعوا، وأثروا مكة رمز القداسة بعزيز أفكارهم، وجديد قرائحهم.
** **
قراءة: بنت الأعشى - حنان بنت عبد العزيز آل سيف
عنوان التواصل:hanan.alsaif@hotmail.com