د.عبدالله بن موسى الطاير
طالبان قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على أفغانستان، هكذا تقول الأخبار، وهكذا يتوقع البنتاجون، وهكذا تقدم طالبان انتصاراتها للداخل والخارج. حركة طالبان تتقدم مزهوة بمنجزها العسكري المقاوم على أنقاض مشروع الإمبراطورية الثانية التي حاولت على مدى عشرين عاما إخضاع الأفغان لفكر سياسي وحياة ثقافية مغايرة لتوجهات الاتحاد السوفيتي؛ الإمبراطورية الأولى، التي سبقت الأمريكية في احتلال أفغانستان.
الإمارة الإسلامية لطالبان، أو إمارة أفغانستان الإسلامية تفاوضت مع الولايات المتحدة الأمريكية في الدوحة، ووقعت اتفاقها معهم بحضور وزير الخارجية السابق مايك بومبيو الذي جلس على مقعده أمام منصة يعتليها ملتح أفغاني معمم يخطب وفق مرجعية لا تزال في العرف والقانون الأمريكيين تخضع للعقوبات الأمريكية، وعدد من قادتها يتصدرون قوائم الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، يضاف إلى ذلك أن هذه الحركة التي تفاوض الأمريكيين ووقعوا معها اتفاقية الدوحة التي قضت بخروج قواتهم، محظورة في معظم دول العالم.
أتفهم مبررات الذين لا يميلون إلى تسمية الانسحاب الأمريكي بالهزيمة، على اعتبار أن ما يجري من حروب في الشرق الأوسط هي حروب عبثية تخدم استراتيجيات الدول العظمى ولا تنتهي بنصر أو هزيمة، وأن الاتحاد السوفيتي لم ينهزم من قبل، وإنما انسحب بعد أن ارتفعت عليه كلفة الحرب بسبب الأمريكيين، وها هي أمريكا تكرر السيناريو السوفيتي بعد عقدين بسبب كلفة الحرب المرتفعة ونتائجها المريرة. وأتفهم أيضا الذين يستكثرون الهزيمة على أمريكا، هذه الدولة العظمى التي تستطيع طمس أفغانستان من على خارطة الكرة الأرضية. ويدفع هؤلاء إلى أن الانسحاب الأمريكي ليس سوى انتقام من الأفغان والروس والباكستانيين والإيرانيين على حد سواء؛ وأن أفغانستان ستتحول إلى مركز الفوضى في محيطها بما يشغل أعداء أمريكا ويزعزع تماسكهم الداخلي ويهيئ بيئة مناسبة لاستنبات عدد من الجماعات والمليشيات الإرهابية التي تعيث فسادا في أفغانستان وجوارها. وإذا سلمنا بهذه الفرضية، فإن علينا أن نقنع أنفسنا بأن الصين وإيران وروسيا وباكستان لا تعلم بهذا المخطط وأنها ستؤخذ على حين غرة بنتائج الانسحاب الأمريكي، وستغرق في أتون الجحيم الأفغاني، وهكذا فرضية يصعب التسليم بها.
كل المؤشرات تؤكد أن طالبان سوف تسيطر على أفغانستان إما بالقوة أو باستقالة الرئيس المنتخب، ومن ثم تشكل حكومة برئاسة طالبان، وفي وصول طالبان للسلطة في أحد الخيارين، فهل ستتمكن من حكم أفغانستان كإمارة إسلامية؟ وبسط نفوذها وفقا للمعتقدات السياسية والدينية التي عرفت عن طالبان، وليس أقلها بشاعة قمع المرأة، وتفجير الآثار الإنسانية التي بقيت شامخة في عهود الحكم الإسلامي المتعاقبة على أفغانستان؟ وهل تستطيع العودة بالمجتمع الأفغاني الذي تذوق أبناء المدن فيه مذاقا مختلفا للحياة خلال الوجود الأمريكي، وهل ستتمكن بسهولة من سلب الناس مكتسباتهم؟
الإمارة الإسلامية الموعودة لا يمكن أن تنشأ بعيدا عن أعين الصين؛ الدولة القوية التي تطمح إلى أن تقدم الاستقرار والتنمية لبلد فشل فيه الاتحاد السوفيتي وأمريكا. الصين مهمومة بأمرين هما الأمن واستقرار الحكم، وهو منهج مغاير للتبادل السلمي للسلطة الذي حاولت أمريكا إرساء دعائمه في أفغانستان عن طريق الانتخابات. كما أن الصين بالتوازي مع رغبتها في استقرار البلد الجار، والنجاح في تنميته تخشى من العدوى الفكرية للإمارة الإسلامية التي قد تتفشى في المجتمعات الإسلامية في المناطق الصينية المتاخمة لأفغانستان، ولذلك فإن الصين ستعمل على محورين؛ يتمثل الأول في جزرة الاعتراف، المساعدات وإعادة الإعمار، ويتمثل الثاني في ترويض السلطة الجديدة فكريا بحيث تتخلى عن معتقداتها المتشددة. وسوف تستخدم الصين باكستان الحليف المشترك لتحقيق مصالحها على الساحة الأفغانية. أما روسيا فلها ثأر لا ينسى مع المجاهدين الأفغان، وترى في طالبان الوريث الشرعي لهم، وليس الحكومة التي نصّبتها أمريكا بعد الاحتلال، وقد استبقت روسيا مآلات الوضع في أفغانستان بإعلانها عدم نيتها رفع طالبان من قوائم الحركات الإرهابية. وأي سعي طالباني للتطبيع مع الروس سيعبر من بوابة الابتزاز السياسي، بحيث تخضع طالبان للشروط التي ستفرضها روسيا، وكذلك سيفعل حلفاء موسكو، والهند وإيران.
ورغم تفهمي للقائلين بهذا الرأي، فإنني لست مع فرضية تحول أفغانستان لكرة من اللهب تجتاح أفغانستان ودول الجوار، ولكني على يقين أن الطريق ليست ممهدة أمام الإمارة الإسلامية لتطبيق مشروعها في الحكم، وأن أول الناصحين لها هم حلفاء الإمارة في إسلام آباد الذين يريدون منها طمأنة الجوار، وفي ذات الوقت لا يريدون أن تزدهر إمارة إسلامية جاذبة للمجتمع الإسلامي المحافظ في باكستان. وتحسبا للمصير الذي ينتظر أفغانستان فإن اللاعبين المحتملين الذين تنتظر منهم طالبان الدعم لن يتجاوزوا في البداية الثلاثي الباكستاني، الصيني القطري.