رمضان جريدي العنزي
البارحة لم تكن بارحة، كانت بارحة مغايرة، سكون ورمل وفضاء، شمطري وديدحان، وشيح وقيصوم، والخزامى مزهرة بالفياض، وقمر ونجوم متلألئة، وطيف من مضى جاءني مثل قنبرة، على متن حلم، بيده اليمنى وردة، وبيده اليسرى فستقة، رحت أخاتل المسافات، أذكر كيف كنا، وكيف صرنا، وكيف جاءتنا الأمنيات، أنخت رواحلي المتعبة، رشقت بالبوح صمت المكان، هو الرحيل كان، والحداء، والظمأ، والغيمة المتهادية، والرعاة والغنم، والخيمة، والمرياع، والجرس، والنار، وغمر الحطب، ولجة الخوف، وتلاطم أمواج انكساره، وصفحة ماء الغدير الصغير، والعشبة الذابلة، والراحلة الذاهبة، ومواسم العشب وقت الربيع، والماء والقربة الباردة، وكيف هي بيوت الشعر غداة الأصيل، ووقت السحر، وكيف تجيء الغمامة كثيفة لكنها غير مهيلة، وصوت الذئاب، وقطاع الطرق، وكيف ينام الناس بخوف ووجل، والمرض، والفاقة، والعوز، والكلل، والدواء عشبة يابسة، أو تعويذة مبهمة، أو كي يشوه الجسد، والفراش (هرس) قديم، روايات الموت المخجلة، والنجوم خضبها الظلام، إذا جن الليل فما عدنا نرى الصخرة، ولا أحجام الأعمدة، والجفاف موسم السراق نحو البيوت المغلقة، البارحة حط الماضي عندي الرحال، على رمل في أقصى الضلوع، تحلق في الأفق كبرعم صغير، تطاول عندي حتى غدا طويلا يشبه أحلام المنى، رحلت معه بعيداً إلى أرض البداوة، صوب التخوم والرواحل الباهرة، رفلنا في حلة بهية تشبه سندس المرحلة العامرة، غسلنا أوردتنا بالماء حتى زال العناء، استعدنا تفاصيل غبطتنا وفق هسيس الكلام، نثرناه على صفحة الماء كالأقحوانة، وخد المنى، رسمنا دوائر للشمس، ودوائر للقمر، عدت معه لأسمع لحن الربابة، وصوت الحداء، لأوقد في القلب بعض الشموع، ولاسيما والحمام حولي في السماء، هي البداوة كانت متعبة، لم أعشها كاملة، عشت منها جزءا بسيطا، وبعض الأحداث من أفواه الرواة.. نحن الآن في غنى، أرضنا انبجست خيراً ومنى، وبحرنا صار عذباً وفرات وهناء، نشرب ماء الدهشة قطرة قطرة، ونوقد الشموع لكي تصير لنا ملهمة، هو حاضرنا مثل قلب سنبلة، وحضن أم، وجناح قنبرة، هو وطننا لنا وحدنا، وحده لنا، شجيراته الذابلة عندنا مثل تفاح وخوخ وقصب، نقلنا من براري القيظ والقحط والأفاعي لعاليات القبب، حملنا كتباً وأقلاماً وأزاهير وقصائد وجواز سفر، هو وطننا ضوء وفراشة وقمر، كل العالم في حروب ومتاهة وضجيج وفجيعة وفجوة ظلماء، وحدنا نفرش عند شجرة السدر، ونقطف منلأشجار المثمرة الثمر، ويحلو السمر، والناس عندنا يذهبون ويعودون، وغيرنا في عالم النسيان فناء، هياكل من حجر، تغمرهم طحالب الأوهام، ينتظرون الصباح كل ليلة، لعله في لحظة يجيء، ونحن فصولنا ملونة، وحدائقنا باهرة، أبوابنا مشرعة، ونوافذنا مفتوحة، وماؤنا بألوان قزح، وخيرنا يموج، نوقد أنواع الشموع، نحرث الأرض، ونسقي الزهور، وننصب للشعر خيامه، وطني ما عاد بيد قاحلة، هو الآن فضاء من شمس وزرع وقمر، وماء وضوء وأنفاس، وملاذ آمن للبشر.