د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تأسستْ هيئةُ التراث في بلادنا بتعددية مهامها، فأصبحتْ ظلاً مرادفًا لحيازة القديم من الفعل والقول والفنون التي صنعها من عاشوا على ثرى بلادنا في عقود مضت بهدف إحيائها وتقديمها ضمن محمولاتٍ حديثة، فكان أن كسب الحراك الثقافي التراثي بين الحين والآخر حُزماً من الأضواء من خلال الحضور النشط للهيئة الوليدة التي سنتها وزارة الثقافة وسمو وزيرها المثقف، وقد اطلعنا على مسيرة هيئة التراث التي تأسست حديثًا في فبراير 2020، وتهدف الهيئة لدعم جهود تنمية التراث الوطني وحمايته من الاندثار، والتشجيع على إبراز وتطوير المحتوى الثقافي الموروث؛ ولمَّا أنّ منهج الهيئة كما ظهر من نشاطاتها وبرامجها يتكئ على الشمولية واحتضان الموروث وتطويره، وتأسيسًا على سيرورة الأزمنة؛ ومع تعاقب السنين سيصبح ما نحسبه اليوم حديثًا من التراث الموروث أمام الأجيال القادمة! والاختلاف أنه سيكون جاهزًا توثيقًا وتقييمًا ليتعاملوا معه بيقين، فلابد أن نستحدث نقاشًا موضوعيًا ودراسات عميقة عن الموروث الثقافي الذي تتعامل معه هيئة التراث في مجمله، وأن تستند تلك الدراسات العميقة إلى تاريخ سليم عن البيئات الجغرافية والاجتماعية والثقافية التي أنجزت ذلك التراث في زمن ما ومكان ما لكونه منجزًا بشريًا قابلاً للصواب والخطأ، ثم إننا وفي هذا الزمن خاصة نحتاج إلى التمحيص وإزالة الشوائب، فهناك رموز بشرية تتوهج وكم تحتاج الأجيال الحاضرة إلى ضوئها لتكتمل بيننا وبين ذلك الموروث مدارج الصعود والأحلام النابضة بالمنجز الحضاري المثمر.
وأن ننظر إلى الموروث كونه منجزًا وصناعة تدل على حقبة أو زمن من تاريخنا لأنه يشرح تلك المرحلة بكل تفاصيلها؛ وننظر إليه كونه بناءً ثقافيًا ينبغي تحليله وإخضاعه لمجهر المقاربة والمقارنة لقياس صدق المكون التراثي واكتشاف ما نتج عنه من حضارة ممتدة وصلنا وهجها عبر الأزمنة! وعند ذاك ننسج الدعوة للاقتداء به والإمتاح منه، ومع تبدل الواقع والمواقع والمعطيات فقد تختلف الرؤية عمَّا نراه بالأمس، وقد يكون هناك تمسك بموروث فقط لأنه مما قدم زمنيًا دون أن يتصل بنا وبواقعنا وبالتشكيل البشري الذي امتدتْ سلاسله وسلالاته عبر الأزمنة، ولابد من الوعي التام أن لا نأخذ بكل ما يصلنا من الماضي لأنه تليد فقط، وقد يكون مما لزمنا ولزمناه وفاءً لا اعترافًا بالنفيس وزمنه ومكانه، فنحن حتمًا مثل غيرنا من الشعوب في تراثنا ما يكتُبُنا قبل أن نكتبُهُ، وفيه خلاف ذلك مما قد يشغلنا عن المستقبل بتجميعه ليرصد دون علم به ومعرفة بتاريخه المتصل بحضارتنا الحاضرة؛ ولعلنا نتساءل وقد تأسست هيئة التراث ككيان أصيل متين: ما هي أنجح السبل للمحافظة على التراث الموروث حتى يزداد صمودًا وقوة؟ والإجابة أنه كلَّما صهرنا الموروث وأخضعناه للدراسة العميقة والمناقشة الواعية ازددنا حبًا له وقناعة به، وتلك الدراسات والحوارات والمناقشات حول الموروث الثقافي لا تتعارض مطلقًا مع وقار الماضي، واعتباره مكونًا أصيلاً في بناء الأجيال مما يحقق ثقتها العميقة في تاريخها، وفي هويتها الثقافية الخاصة؛ وموجز ذلك أن تقدير التراث والعناية به وهيبته لا يعني التنحي عن نقده ومناقشة مكوناته ورموزه وتأثيره وأثره، فهو في النهاية نتاج بشري! كما أن تأصيل التراث في بنيته ومكوناته مطلبٌ حيوي ولكن أن لا يُشكِّل الماضي عبئًا على المستقبل، كما ينبغي أن يكون التراث محفزًا نقيًا دافعًا للمزيد من المغامرات والبرامج للوصول إلى الموروث بكل أنماطه، فالموروث الوطني الصادق النقي يظل ملهمًا موجهًا للإبداع، ومنبعًا ثرًّا لتوليد الطاقات في حاضر الأجيال ومستقبلهم!