د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
يؤكد علماء النفس أن الإنسان قبيل وفاته يشخص أمام عينيه شريط سريع يُعرض فيه كل محطات حياته خلال ثوانٍ معدودة، ولعلها من أبرز إشارات الدماغ التي تؤذن بالرحيل عن هذه الدنيا الفانية.
وما غفل عنه أصحاب الاختصاص في هذا الشأن هو موقف من يحضر الجنازة وخصوصًا من له علاقة وطيدة بالمتوفى، كيف يمرُّ شريط ذكرياته مع الفقيد أمام عينيه لا شعوريًا وهو يتأمل حالة السكون التي تلف الجسد بعدما كان عامرًا بالحيوية، وحتى أننا قد نقرأ في عيون أقارب المتوفى تلك الأحداث المفعمة بأدق تفاصيل الحياة، فنكون في هذه اللحظات العصيبة بين مصدقين ومكذبين لهذا الحدث الجلل، يقول المتنبي:
طَوى الجزيرة حتّى جاءني خبرٌ
فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ
حَتّى إذا لم يدع لي صدقهُ أملاً
شرقتُ بالدمعِ حتّى كاد يشرقُ بي
يا لها من ساعات رهيبة، ودقائق جليلة، محاطة بهالاتٍ من الحزن والشوق والألم، تختلط كلها بحضور هذا الموقف المهيب، الذي يصدح بدنوّ آجالنا، فالحياة قصيرة مهما طالت، والدنيا فانية مهما عُمّرت، ولن يبقى من زخرفها شيء، إلا أننا نغبط من يغادرها، وقد أعدّ العدة لآخرته بثلاثة أشياء: عمله الصالح، وذكره الطيب، ومحبة الناس، يقول أحمد شوقي:
دقات قلب المرء قائلة له:
إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمرٌ ثاني
من أصعب المواقف التي تمر على الإنسان فقد عزيز، ولكن كيف سيكون هذا الفقد إذا كان بحجم جبلٍ أشمّ، كالشيخ ثنيان الثنيان - طيب الله ثراه-، فيوم الأحد الخامس عشر من شهر ذي الحجة 1442هـ، كان يومًا حزينًا، خيّمت عليه غيوم الهم، التي أسبغت على كلِّ شيء حولنا لونها الأسود الكئيب، فما أصعب ذلك النهار، وما أكود ما نزل علينا فيه، فما هي إلا ساعات ودنت الشمس من مغربها، لأتوجه مع جموع غفيرة إلى مقبرة العمّارية بعد أن أديت الصلاة على الفقيد في جامع الملك خالد، وهناك توافدت الجموع تتلوها الجموع، لتتحول تلك البلدة الهادئة الوديعة في طرف الرياض إلى مدينة صاخبة بالسيارات وبالبشر الذين يبحثون عن المقبرة ليشاركوا في مواراة جثمان الفقيد الثّرى، لتتعاقب تلك الأعداد الغفيرة من الناس إلى المقبرة التي اكتظّت بجموع البشر فتدخلت دوريات الأمن مشكورة في تنظيمهم، فكانت كل مجموعة تؤدي الصلاة على الفقيد ممن لم يتمكنوا من الصلاة على الشيخ ثنيان -رحمه الله- في المسجد بعد صلاة العصر.
لقد شهد هذه الجنازة أعداد غفيرة من الناس من مختلف الفئات، والطبقات، والأعمار، -فطوبى لك يا أبا فهد هذه المحبة وهذا القبول- ومع تنوع أشكالهم وأعمارهم وأسمائهم إلا أنهم توافقوا في المكان والزمان ذاته، وكانت ألسنهم تلهج بالدعاء للفقيد، لتتجه أكفهم إلى السماء، فتتحد دعواتهم بالرحمة والمغفرة للفقيد، وبالصبر والإعانة لذويه وفي مقدمتهم الصديق العزيز فهد، وأسرته، لقد كانت أيامًا عصيبة وقاسية على كلِّ محبي الشيخ: ثنيان، فكيف بها إذًا على أسرته التي نسأل الله لهم العون والثبات، والأجر والمثوبة، وأنا أطالع تلك الألسن التي تلهج بالدعاء للفقيد، تمثلت قول الشاعر ناصيف اليازجي:
والموتُ يختار النَّفيسَ لنفسهِ
مِنَّا كما نختارُ نحنُ فما اعتَدَى
قد نالَ منَّا درَّةً مكنونةً
كانت لبَهجتها الدراري حُسَّدا
ثنيان بن فهد الثنيان.. دون ألقاب تسبق اسمه، أو مسميات تتزاحم لتقدمه لمحبيه، الرجل الاستثنائي الذي كان أنموذجًا في مكارم الأخلاق وعلوّها، والعَلَم الذي نحتار بما نسميه! ولكننا نعرف شيئًا واحدًا فقط وهو أن هذه الألقاب تتقهقر أمام اسمه الرصين، وشخصيته المُهابة المقدّرة بكل تفاصيلها التي تتجاوز الكاريزما بكل ما تعنيه من دلالات، فكان صوته المجلجل المهيب، وحضوره البهي في كل مناسبات الرياض له رونق خاص، فتشعر وأنت تتحدث معه وكأنك أمام موسوعة متنوعة في كل شأن، وهذه من أكثر الصفات التي تميزه عن غيره -رحمه الله-، كما أنك تقرأ تاريخ الرياض في عينيه، فهو من أكثر رجال الأعمال والوجهاء الذين نالوا ثقة الأميرة حصة بنت أحمد السديري، وأبنائها البررة -رحمهم الله-، فكان خير معينٍ لهم ولمولاي خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض فيما يخص الشأن الاجتماعي، فلا يمكن أن يخلو مجلس الملك سلمان بن عبدالعزيز من وجود أبي فهد، وهذا يدل على مكانته وقيمته.
من أبرز الصفات التي اشتهر بها الشيخ ثنيان الثنيان -غفر الله له- كرمه العربي الأصيل، فكانت بوابة قصره الجنوبية مفتوحة طوال النهار، فلا يمكن أن تغلق إلا بعد غروب الشمس، فما إن يدلف أي ضيف إلى البيت حتى يجد الترحاب من المضيف، الذي كانت مجالسه مفتوحة للكل، فلا يمكن أن يمرّ يوم دون أن يكون في بيته مناسبة، فهو مضياف من الطراز الأول، وهي الصفة التي ورثها عنه ابنه الشيخ فهد، فهو كريم ومضياف كوالده، الشيخ ثنيان -غفر الله له، وإلى جانب كرمهما يتمتعان بدماثة الخلق ليستقبلا ضيوفهما بحفاوة وترحيب حاتمي يُخجل من يحلّ عليهما ضيفًا في المنزل أو في المزرعة بالعمارية، وهذه الصفات لا نجدها إلا في أنبل البشر وأكثرهم صفاءً ونقاءً، وفي هذا الموقف أستحضر أبيات شاعر المعلقات زهير بن أبي سلمى الذي يقول فيها:
اذكرن خير قيس كلها حسبا
وخيرها نائلاً وخيرها خلقا
وذاك أحزمهم رأيا إذا نبأ
من الحوادث غادى الناس أو طرقا
من يلق يوما على علاته هرما
يلق السماحة منه والندى خلقا
لو نال حي من الدنيا بمنزلة
أفق السماء لنالت كفه الأفقا
وبحكم صداقتي بأبي ثنيان (فهد) -وفقه الله- وصلتي به، فقد وقفت على كثير من مواقف برّه وإحسانه بوالده الشيخ ثنيان -رحمه الله-، وملازمته له في كل حين، وهذا من أعظم نعم الله -عز وجل- على عبده، يقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو عمل ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)، فطوبى لمن اختاره الله لذلك، وهنيئًا لمن سعى في هذا الطريق فكسِب خيري الدنيا والآخرة.
لقد كان بِرُّ أبي ثنيان (فهد) بوالده أنموذجًا متفردًا في هذا الميدان، فقد كان ملازمًا لوالده في كل حين، حتى إنه منع نفسه من كثير من الأمور بِرًّا بوالده، ومن ذلك -ولعله يعذرني في البوح بها- امتناعه عن السفر، وإذا اضطرّ لذلك فإن رحلته فلا تتجاوز الأربع والعشرين ساعة، وهذا من أعظم صور البر أن يقوم الابن بملازمة أبيه، والوقوف على احتياجاته في كل المجالات، كما أن بر أبي ثنيان (فهد)، شمل جميع أفراد أسرته وخصوصًا والدته، ولا زلت أتذكر فاجعة وفاة شقيقه عبدالعزيز -غفر الله له-، الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى وهو في الواحد والثلاثين من عمره في حادث سيارة أليم، أوجعنا جميعًا وأثر في كلِّ محبيه، وكيف تلقّى الشيخ ثنيان، وابنه الشيخ فهد، نبأ وفاة عبدالعزيز، بكل صبر واحتساب وطيب نفس، وإني لأسأل الله -جلَّ وعز- أن يكتب ذلك في ميزان حسناتهما، ولعل تلك الكلمات التي ودّع بها الفقيد الشيخ ثنيان، ابنه البار عبدالعزيز، تكشف صبره واحتسابه، ومما قاله في رثاء ابنه -رحمهما الله-: «لقد رحل ولدي عبدالعزيز في ريعان شبابه، ولكنه كان ولدًا بارًّا صادقًا فيه من علامات الرجولة والشهامة ما لا يخفى على كل من عرفه عن قرب، وأشهد الله أنني راضٍ عنه كل الرضا، وأرجو من الله العزيز القدير أن يرحمه ويغفر له ويتقبله عنده في الصالحين، ويجمعني به في جنته إنه على كل شيءٍ قدير».
ولا زلت أتذكر تلك الكلمات التي أسرّ بها لي أخي العزيز أبي ثنيان قبل أكثر من عقد، عندما عزم على طباعة كتابٍ عن الفقيد عبدالعزيز الثنيان، وحرصه على أن يظهر الكتاب بأبهى حُلّة، وأجمل صورة، ومما قاله لي قبيل طباعة الكتاب: «حرصت أن يكون الكتاب فخمًا ولائقًا -مع يقيني برقي محتواه- لأن أخوي عبدالعزيز كان يحب الزين..»، وهذا من أجمل صور الإحسان والمحبة، فالموت لا نملك معه إلا الرضا والقبول، والدعاء لمن فقدناهم، فهو طريقٌ كلنا سائرون فيه، يقول كعب بن زهير:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يومًا على آلة حدباء محمول
كم هي قاسية هذه الدنيا عندما تخطف منا من نحب، فتداهمنا هذه الأحداث بكلّ قسوة فلا نملك معها إلا الصبر، والتسليم بقضاء الله وقدره، والدعاء لمن فقدناه بالرحمة والمغفرة، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يغمر أخي: عبدالعزيز بن ثنيان الثنيان، ووالده الشيخ: ثنيان بن فهد الثنيان، بواسع رحمته ومغفرته ورضوانه، وأن يربط على قلب أخي وصديقي العزيز الشيخ: فهد، ويصبّره على فقدانهما، وأن يلهم أهلهما وذويهما الصبر والسلوان، وأن يجمعنا بهما في جنات النعيم، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.