وها أنا أكتب عن الفقد، والقلب يقطر ألمًا ودمًا، والشوق لا حدّ له ولا وصف، والرضا منه لا بدّ إيمانًا بالله، وإن انسكبت دموعي بغزارة حرقة، واعتصر قلبي وجعًا على أمي؛ إنه قدر الله سبحانه وتعالى، ونسأله الرحمة لأمي، وأن يجمعنا بها في الجنة.
ولأنّ إرادة الله فوق إرادتنا، ولا نخرج عنها، وإليه يرجع الأمر كلّه، وهو أرحم بها منّا، والقدر حقٌّ، ولله الحكم النافذ، وبيده تقدير الأمور؛ فالخلق خلقه، والعبيد عبيده، والأنفاس مشيئته، والكون ملكه، والسموات والأرضون في قبضته، وهو المتصرّف، الكبير، المتعال، الملك، القدوس، السلام، الحكيم، الغنيّ، الحميد، المؤمن، العزيز، الجبّار، الرحمن، الرحيم، الودود، المعين، العظيم، الكريم، الغفور؛ فله الحمد ابتغاءً لرضاه وجنّته، وأملًا في رحمته بأن يرحم أمي ويسكنها في الفردوس الأعلى مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
وقسمًا بك ربي -وأنت أعلم- إنّ وجع الفقد كبير جدًا، ودائرة الألم -كلّ يوم يمرّ على فقدها- تتّسع أكبر، وتصغر بالثقة بالله، والرضا بأقداره، والأمل والرجاء بما عنده.
آهٍ.. ما أصعب الفقد ربي!
وما أصعب ذلك الشعور! الذي يجتاح الأحاسيس ويأتي بالألم ويوخزه في صدري ويكسرني في ظهري، وتخرّ له قواي؛ فإذا بي بالله أصبر وأتصبّر، وأعود وأتقوّى بالله سبحانه في صلاتي، في دعواتي العميقة الكثيرة لك أمي، في بشرى رؤيانا اطمئنّ بها وأسعد وآنس وأستبشر خيرًا، وفي حديث الناس عنكِ وذكركِ بخير، ودعواتهم الكثيرة لكِ، وسمعتكِ العطرة..
آهٍ.. ما أقسى الوحدة بعدكِ أمي!
أمي بعد رحيلك أنا حقًّا وحيدة! وإن سندني بعض من هم حولي، لكني وحيدة دونك، وافتقدك جدًا، فأبحث عنك وأجدك في قلبي وفكري تعطّريني، وأكون ممتلئة بكاءً جليًا وخفيًا، وأنسًا نديًا وريًا.. بقرب الله سبحانه ولذّة مناجاته، ثم بوجود والدي وقربه مني -سلّمه الله وحفظه لنا-.
ما زالت صورتك ووجهك البشوش سمح المحيّا، رائحتك، كلامك، صوتك، نظراتك، لمساتك، أماكنك، وذكرياتك معي تلازمني، وستبقى ما حييت..
حتى إنّي ما زلت أشعر بالارتباط والانشغال بأمي وكأنها ما زالت على قيد الحياة..
أمي لن أنسى وجهكِ الطاهر؛ وبياض قلبك؛ ولا تلك الابتسامة؛ والضحكاتِ العذبة؛ ولا تلك النصائح ولا ذاك العتاب حتى.. كنتِ يا أمي أنسًا يسقي القلب ارتواءً، ولم أشبع منكِ؛ ولن أشبع، ورحلتِ.
نعم؛ أمي عند رب رحيم؛ رب جواد؛ رب كريم؛ رب غفور؛ رب عظيم.
نعم؛ أمي في قلبي؛ وستبقى.
نعم؛ أمي غالية؛ وأكثر.
نعم؛ أمي جميلةٌ جدًّا؛ وأجمل.
نعم؛ أمي عطوفة؛ وألطف.
نعم؛ أمي صافية؛ وأنقى.
نعم؛ أمي رحيمة؛ وأرقّ.
نعم؛ أمي سعادة؛ وأبهج.
نعم؛ أمي كنز؛ وأثمن.
نعم؛ أمي درّة؛ وأغلى.
نعم؛ أمي أحبّ؛ وأحبّ؛ وأحبّ؛ بلا عدّ ولا حدّ ولا وصف.
إن الوجع الحقيقي الذي أشعر به -مهما عبّرت عنه- فقد أقللت وإن عبّرت وأكثرت عن وصف ألمي الذي أعيشه بفقد أمي، فالذي بداخلي أزخر وأوسع ممّا تحدّثت به وعنه.
كيف سيكون حالي بعدكِ؟ وأنا أكفكف دموعي الحرّى! كيف أسلو وأنت قلبي وهناي وسعادتي ووجداني؟ أذكر عندما كانت الحياة تبهت والظروف تشتدّ كانت الحياة دائمًا تتلوّن بابتسامتك المعهودة أمّي.
أمّاه؛ لن تذبل صورة عينيك في قلبي ومخيّلتي.. ستظلّ عالقة؛ حتى إن ذبلت كلّ أزهار الكون..
لقد ذقت في حياتي أوجاعًا كثيرةً وقاسية، لكن حزني على أمي مختلفٌ تمامًا! إنه وجعٌ أشدّ وأكبر وأقسى ممّا مضى!
تعطّلت مباهج الحياةِ في عيني!
من ذا يعيدها لي سواه؟! لا أحد!
إنه ربِّي وحده يبدِئ، ويعيد، ويجبر، ويحيِي، ويسعِد، ويشفي، ويرزق، ويقدِر، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
إني أنام ولا أشعر بدفء الغطاء وهو فوقي ملتحفة به!
أصحو ولا أشعر بنور الصباح، وهو يدخل غرفتي عبر النافذة! ويطرق أبواب النائمين!
آكل الطعام ولا أتلذّذ في تذوّقه وهو طيّب!
أمارس يومي بشكل مملّ دون أن تشاركيني لحظاتي يا أمّي؛ ودون أن نتجاذب أطراف الحديث كما كان.
متعة الحياة وجودك، ولذّة القلب دعواتك، وجمال إحساسي سماع صوتك في هذا العالم.
فلا دفء يحويني كدفئك، ولا نور يضيئني كنور وجهك، ولا سعادة ترويني كحديثك معي.
فقد كنت أتضمّد أملًا، وأتداوى برؤيتك أمي، وأقدم في الحياة وأسير ببركات وجودك ودعواتك العميقة الغزيرة المبلّلة صدقًا، لكن ثقتي وأملي بالله ما زال وسيبقى وسيستمرّ حتى بعد مماتك إن شاء الله، بأن يتغمّدك الله برحمته ويسكنك الفردوس الأعلى.
ولديّ شعورٌ طيّبٌ بأنك قد بشِّرتِ من ربٍّ رحيم ودود كريم وقد قالت لك الملائكة: (فروحٌ وريحانٌ وجنّت نعيمٍ)، ورجائي أن يتغمّدك الله برحمته الواسعة.. وأن يسكنك الفردوس الأعلى، ويجعلك من الضاحكين المستبشرين بجنّته، ويجمعنا بك على سرر متقابلين، وأن يفتح لك بابًا من الجنة، ويبعدك عن النار ويتجاوز عنك، وأن ينوّر الله قبرك أمي، ويجعله روضة من رياض الجنة، وأن يفسح لك مدّ بصرك، وأن يبشّرك الله برضوانه، ويسقيك عند الحوض من يد نبيّنا محمد شربة هنيئة مريئة لا تظمئين بعدها أبدًا، وأن ينعّمك بأعمالك وأقوالك الصالحة الطيّبة،ويتقبّلها قبولًا حسنًا مباركًا، وأن يغفر لك، ويجود لك من سحائب رحمته عفوًا وغفرانًا، وأن يجزيك بصبرك من غير حساب ولا سابقة عذاب، وأن تصلك الدعوات الوارفة، والصدقات النقيّة، وأعمال البرّ السخيّة.
رحِمكِ الله رحمةً واسعةً.. أمّي.
** **
- فضة حامد العنزي
fedah31@hotmail.com
@fedah_7