الهادي التليلي
الكاثرسيس هذا المفهوم الفلسفي ذو المرجعية الإغريقية والذي يعني التطهر والاغتسال من الأدران ينطبق على ما حدث هذه الأيام في تونس التي قالت للعالم إنها تتعافى لا فقط من خطر كورونا ولكن الأهم من فيروس الإخوان فيوم 25 من يوليو والموافق لذكرى إعلان الجمهورية التونسية، لم يكن هذا العام عاديًا ومجرد ذكرى للاعتبار والتغني بنشأة أسس الدولة التونسية وتحديدًا نظام حكمها، حيث تزامن هذا العام مع إجراءات ثورية اتخذها الرئيس قيس سعيد الذي كما كان متوقعًا من القريبين من فكره فعل الفصل 80 من الدستور التونسي هذا الفصل الذي يرعب كل أعضاء مجلس الشعب وكل الطبقة السياسية التي استولت على مشهد البلد نتيجة عزوف الأغلبية الصامتة التي سمحت للأقلية الصائتة بالتربع على القرار في المشهد، في الحقيقة القرارات التي اتخذها قيس سعيد والتي نراها جاءت في وقتها عندما توفرت لها كل الشروط الموضوعية ونضجت ثمرتها لم تكن متأخرة كما رأى البعض بل جاءت فعلاً في الوقت المناسب.
فيوم عيد الجمهورية في ذهنية كل التونسيين زيادة على كونه ذكرى خروج القرار التونسي من الاحتلال العثماني الذي يمثله الباي آنذاك واستطاع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وبشكل تسلسلي أن يجمد كل أنشطة الباي ويحوله إلى صفحة مضت من تاريخ البلاد ويفتح صفحة من تاريخ يكتبه التونسيون بإرادتهم، صفحة تشبههم، وهو فعلاً ما تحقق وما حصل سنة 1957 تعاودت ملامحه بما يشبه ما حصل تلك الأيام عندما أعلن قيس سعيد إجراءاته التاريخية ومنها تجميد عمل مجلس الشعب ورئيسه راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة وزعيمها الروحي والذي أراد تحويل مجلس الشعب إلى أداة لبعض البلدان المتحالفة معها في خطها المستثمر للرأسمال الإخواني الذي لم تبق منه تتنفس في العالم العربي بعد تجفيف معقلها القبل الأخير بمصر إلا النهضة في تونس والتي استطاعت أن تتغول على االمشهد الوطني حتى أن الغنوشي تحول إلى ما يشبه الموظف الذي يأتمر بأوامر دول خارجية بل توجه لمقابلة سياسية بشكل خارج عن الأعراف والمواثيق الدبلوماسية، وعندما سأله المعارضون لسياسته في البرلمان أجاب بأنه سافر بشكل فجائي للتهنئة بإحدى الإنجازات، فكأنما هو موظف.. لذلك أرى تجميد نشاط مجلس النواب الذي بحكم تغول النهضة فيه ومشتقاتها أصبح أداة لبعض الدول.
بعض الدول كلها عناوين لمرجعيات الحزام الدولي لحركة النهضة وكلها خسرت في سقوط الغنوشي وحركته موطئ قدم لتمرير ما تراه من مصالح اقتصادية وجيوسياسية بحكم موقع تونس وقربها من ليبيا ووجودها كنافذة أوروبا على إفريقيا.
أيضاً الذكرى الماضية من عيد الجمهورية تزامنت مع اختيار قيس سعيد لهشام المشيشي وتسليمه المهام رسمياً كرئيس للحكومة، ولكن الأخير خان الأمان وتنكر للرئيس وتحول إلى موظف مطيع لحركة النهضة التي كشفت الأجهزة الأمنية العسكرية أنها هيمنة ناتجة عن ابتزاز بحكم ما تمتلكه النهضة من ملفات خطيرة على المشيشي منها ملف فضيحة أخلاقية ومنها قضية كوكايين فضحها أحد المقربين منه الذي اعترف وذكر اسم المشيشي، هذه الورقة استثمرها قيس سعيد عندما وضعت بين يديه في آخر لحظة قبل حراك 25 جويلية مع تحرك المشهد باتجاه هذا التاريخ ذهب مباشرة في ذهن العارفين أن هذا التاريخ الذي كان تاريخ ولادته كرئيس حكومة هو تاريخ وفاته في هذه الصفة والخطة والوظيفية والمسؤولية الحكومية بضربة مقصية الجزء الأول منها عزل والجزء الثاني استقالة على مقاس الفصل 80 من الدستور التونسي وتلك الضربة القاصمة لظهر النهضة.
وكذلك ذكرى 25 يوليو تتزامن مع ذكرى اغتيال الشهيد الحاج محمد البراهمي والذي يتهم باغتياله الجناح السري لحركة النهضة وتطالب هيئة الدفاع على حق الشهيد بإجراءات سعت النهضة بكل جهودها لطمس الأدلة والبراهين حسب هيئة الدفاع مما جعل الناشطين يدعون لحراك في ذكرى الشهيد سعياً لكشف الحقيقة التي بقيت جرحاً عميقاً في ضمير الشعب التونسي هذا الشعب المسالم الذي نهشته الأيادي الخفية من كل حدب وصوب، لذلك جاءت قرارات قيس سعيد الذي منذ توليه السلطة صرح بأنه عاقد العزم على الاستجابة لمطالب الشعب، كيف لا وشعاره الانتخابي الشعب يريد، خاصة وأن الكشف عن قتلة الشهيدين البراهمي وشكري بلعيد مطلب شعبي بالأساس.
ولذك أيضاً سمعنا كثيرًا من الناس يقولون إن البراهمي آن له أن يرتاح في قبره بسقوط حكم الإخوان في تونس لأن سقوط منظومة الإخوان في تونس يعني آليًا توقيع شهادة وفاة لما يسمى بالربيع العربي الذي تورطت فيه دول أجنبية وعربية معروفة واختارت ساعتها تونس كمكان ولادة له، فتونس التي شهدت الميلاد توقع وأمام العالم أجمع شهادة الوفاة التي هي في الحقيقة إعلان ضمني لميلاد الجمهورية الثالثة.
ولو عدنا إلى تاريخ نشألة الإخوان في تونس نلحظ أنه يعود إلى نهاية الستينات وتحديدًا مع تصاعد صدى جماعة برسبكتيف اليسارية والتي من بين أهم قياداتها عبد الرحمن الهيلة والتي بدأت تشكل خطرًا على نفوذ بورقيبة حيث كانت تضم نخباً حقوقية مشهود لها كما كانت مهيئة لأن يحتضن مخاضها الاتحاد السوفياتي حينها الذي كان خطابه وتجربته مهيمنة على بلدان الأجوار لاحقاً ونعني ليبيا القذافي وجزائر هواري بومدين فكانت قراءة بورقيبة تتمثل في زراعة تيار إسلامي خاصة وأن جماعة برسبكتيف بحكم إيديولوجيتهم اليسارية يرون في الدين ما يراه كارل ماركس أفيون الشعوب، وبذلك تخلص بورقيبة من خصوم لفكره وتوجهه وحلمه بدولة تونسية ليبيرالية هم الأكثر شراسة وخطرًا آنذاك ولكنه بدعوته لعبدالفتاح مورو حتى يؤسس هذه الحركة مستعينا براشد الغنوشي وغيره فقد زرع فيروساً هو الأخطر لذلك الجموع التي خرجت للشوارع يوم 25 يوليو والذين لا يريدون الإخوان وكذلك لا يريدون المتدسترين الذين يلبسون زي الحزب الدستوري البورقيبي، فالناس ملوا الأحزاب السياسية لما رأوه من تناطح في البرلمان وما عاشوه من فقر وتهميش في حين يشاهدون في الثراء الفاحش للمتسيسين، إنها ثورة الشعب التي استجاب لها الرئيس قيس سعيد والتي تستجيب لمقولته «الشعب يريد».
حركة النهضة هذا البعبع الذي طالما تغول على المشهد السياسي في تونس نهشته الاختلافات الداخلية والتي ترجمت باستقالات من الحجم الثقيل ومن الصراعات على الزعامة وخلافة الغنوشي في الحزب في كل مؤتمر وخاصة في زمن كورونا حيث كشفت فعلاً سوء التعاطي وفشلاً كبيرًا في التعامل معها كما ترهل من الداخل بفعل توسع الرقعة على حساب التكوين إضافة إلى نقطة مهمة جدًا وهي التمسك بالسلطة التي تهد القائمين عليها وخاصة الذين لا يمتلكون رجال دولة في حجم تونس الحديثة كما بقيت عديد الملفات بمثابة اليد المجروحة التي يعزف على وتر ألمها كل الخصوم ونعني بذلك قضايا الإرهاب وتحديدًا ملفات الاغتيالات لكل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي وغيرهما، إضافة إلى ملفات التسفير لبؤر التوتر والصلة بداعش والقاعدة وغيرها كلها جعلت سقوط البعبع أيسر من صعوده وهو ما تنبأنا له في مقالتنا منذ سنة تقريبًا بجريدة الجزيرة وتحديدًا في مقالة «إخوان تونس وسر النشأة» بتاريخ 20 يونيو 2020 حيث قلنا «..سر نشأة حركة الإخوان بتونس والذي يحرص جماعة النهضة ورثة هذا الإرث الإخواني في هذا البلد المسالم والذي لا يمتلك من ثروات سوى عقول وهمة أبنائه يعتبر محرجاً لعديد الأطراف ممن كانت على معرفة بالتفاصيل سواء من داخل الخطاب البورقيبي أو من دائرة الخطاب الإخواني التي تروج لبورقيبة الدكتاتور القاسي، وإذا كان بورقيبة مساهمًا في استقلال البلاد وفي بناء دولة تونس المدنية بتعليم عصري ومجلة أحوال شخصية أعطت المرأة مكانتها في المجتمع كشريكة في الحياة المدنية، فإن الإخوان في تونس بأجنحتهم متقاطعة بين تأثير بعض الدول التي أحرجت الشعب التونسي تجاه شقيقه الليبي وعطلت عجلة التنمية نتيجة الجهل بتسيير دواليب الدولة وعدم الإحساس بالانتماء لدولة مدنية وتغليب مصلحة حلفاء الحزب من الخارج على حساب مصلحة الدولة.. فهل سيكون بورقيبة ثان يقتلع ما زرعه بورقيبة الأول؟..وهل يحصل لإخوان تونس ما حصل للفاطميين الشيعة، حيث تركوا البلاد هاربين إلى القاهرة، لأن تونس والضمير الجمعي لشعبها لا يقبل التطرف والدماء ولكن قد تكون قاهرتهم هذه المرة الأستانة».
قيس سعيد انتظر إكتمال شروط تطبيق الفصل 80 من الدستور خاصة في لحظة انسداد كل الآفاق أمام الشعب نتيجة مخلفات جائحة كورونا والموت المخيم على كل جهات البلاد والذي جوبه بلامبالاة النهضة ومشتقاتها الحاكمة فكان أن أشهد عليهم العالم من خلال اتصالاته طالباً للدعم في مواجهة الجائحة ليكون يوم الجمهورية اللحظة الحاسمة التي دخل بها قلوب كل التونسيين وحظي بها بتقدير واحترام كل الشعوب الرافضة للتطرف وحكم الإخوان.
ما حدث في تونس لم يكن عادياً ولن يمر مرور الكرام وحتى وإن حدثت بعض الأعمال الإرهابية كرد فعل على ما حصل فإن الشعب التونسي يراها فاتورة ضرورية لكنس التطرف والإرهاب من تونس التي هي أبعد ما يكون في تاريخها وثقافة شعبها عن هذا الدغم القاتم الذي رحل غير مأسوف عليه.