د.محمد بن عبدالرحمن البشر
النقل الأدبي والعلمي مألوف منذ أن خلق الله الإنسان، ومنحه الجنان، واستمر كذلك، ولولا هذا النقل لما استطاع الإنسان أن يصل إلى ما وصل إليه من التقدم، فالحضارة المادية هي نتيجة تراكم لحضارات سلفت، وكان ذلك منذ تعلم الإنسان الحصول على المعيشة، سواء بالالتقاط، أو تعلم الصيد والاستفادة منه، واستخدام النار، وغيرها، ثم انتقاله المثير إلى الزراعة واهتدائه إلى معرفتها، بعد أن وصلت الحقبة الجليدية إلى نهايتها، قبل أكثر من عشرة آلاف عام، وقلة الأمطار، مما دعا الإنسان في سوريا أن يبتدع الزراعة، ليتوارثها الأجيال، وتنتشر في سائر بلاد الدنيا، ولولا نهر النيل، واكتشاف الزراعة فيما سبق، وتناثر المشيخات على ضفافه، لما تهيأت الفرصة لإنشاء أول ملكية في العالم في مصر، حيث قام الملك مينا بضم المشيخات، وتكوين دولة أو مملكة يعتبرها الكثير، أول مملكة في العالم وكان ذلك قبل نحو خمسة آلاف عام من يومنا الحاضر، وتكوين المملكة نفسه، نقله الآخرين، وأصبح هناك فيما بعد ممالك في الشرق الأوسط لاسيما العراق والشام، إذا استثنينا الحضارة السومرية في العراق، التي سبقت الحضارة المصرية، لكنها لم تكن مملكة بمعناها الذي رسمه المصريون القدماء، ثم كان الانتقال من ملكية إلى الدولة ذات التنظيم والهياكل، والتي انطلق مفهومها من مصر إلى سائر بلاد الشرق الأوسط، ومنه إلى العالم الآخر، غير أن مصر في ذلك الزمان لم تتداخل مع الدول مباشرة في بداية نشأتها أما الحضارات الأخرى مثل البابلية، والأكادية، والآشورية، فقد كان لها تداخل مع حضارة الأناضول واليونان، ولهذا كان النقل المصري كثيراً وميسراً، وهناك من يقول إن العلوم اليونانية، إنما تم نقلها في القرون اللاحقة من مصر إلى هناك، كما أنه من شبه المؤكد أن شعوب البحر القادمة من بحر إيجه إلى الشام فيما فيها فلسطين، والتي اشتهرت باستخدام الحديد والخوذ والتروس، واللبوس والدورع، وغيرها، إنما نقلوها من الأناضول قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، بعد ضعف الحضارة الأناضولية، وهي أيضاً ما استخدمها سكان الشام نقلاً معرفياً عن شعوب البحر، ولهذا فإن داوود عليه السلام قد استفاد منها، حيث اقتبسها من هناك، فألان له الله الحديد، كما ورد في القرآن، واستفاد منه أيضاً في حربه وفي سلمه، كما هي السابغات مثلاً الذي استخدمه لتغطية الصدور في الحروب.
وبعد ذلك كان للحضارة اليونانية في مرحلتيها دور كبير في الدفع بالنقل المعرفي إلى آفاق مديدة، حيث استطاعت شعوب كثيرة من نقل تلك المعارف والفلسفات إلى التطبيق العلمي، ومن ذلك ما قامت به الحضارة الإسلامية حيث تم نقل وترجمة الكثير من المعارف إلى اللغة العربية والاستفادة منها، ومنها انطلقت من بوابتين كبيرتين في المشرق والمغرب الإسلامي، لتتلقفها أوروبا، وتحولها إلى علوم تطبيبقية، أصبحت أداة لتفوقها العلمي الحاضر.
والاقتباس كان سائداً في سائر العلوم لاسيما الأدبية، وهذا أمر مألوف سواء في الشعر أو النثر، أو التفسير، أو العلوم الفقهية والشرعية، فابن كثير قد نقل واقتبس جل تفسيره من الطبري، كما أن تاريخه يكاد أن يطابق الطبري، لولا أنه عاش في فترة لاحقة، فأكمل ما بعد زمن الطبري، وابن عبد ربه الذي ألف الكتاب الشهير العقد الفريد في الأندلس، كان الخليفة العباسي يتلهف على الحصول على نسخة منه، وعندما وصلت وقرأها، وجد أن معظمها قد نقل من كتاب ابن قتيبه، قال قولته التي أصبحت مثلا «هذه بضاعتنا ردت إلينا» حتى المتنبي، والأصفهاني قد اقتبسا الكثير، أما طه حسين في حديثه عن الشعر الجاهلي فقد اقتبسه من أحد المستشرقين.
أما السرقات فحدث ولا حرج، فهناك من يسرق كتاباً أو جزءاً من كتاب ويضع اسمه عليه، وهناك من يسرق مقالاً، بل مقالات، وهناك من يسرق شعراً، والأدهى من ذلك من يدفع مبلغاً لكي يكتب له الآخرين شعراً، أو نثراً، أو يؤلف باسمه كتاباً، أو تحقيقاً، لمخطوط معين، أو حتى رسم لوحة أو لوحات.
والسرقات المعرفية في مجال العلوم لا حصر لها، فالأساليب المتنوعة تستخدم لسرقة التقنية العلمية والمعرفية، في مجال الهندسة والطب، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، ناهيك عن ذلك التفنن في سرقة تقنية صناعة السلاح سواء المحرم دولياً، أو غير المحرم، أو ذلك المدمر، مثل السلاح النووي والبيولوجي، والكيميائي وغيرها.
وما زال مجال السرقات العلمية والصراع حولها قائماً، لاسيما أن التقنية الحديثة قد تتيح للسارق فرصة السرقة من خلال الاختراق، وسحب المعلومات في دقائق معدودة، بينما كان في السابق يتم عبر الخونة والجواسيس، الذين يحملون المخططات والمعلومات من مكان إلى آخر.
وهكذا فإن النقل، والاقتباس، والسرقة ستظل قائمة، والدول جاهدة تحاول الحد منها.