أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أول معنى للسلفية ما كان ميزاناً لها؛ وذلك هو وجوب اتباع دين الله حسبما سنَّه الله من التثبت من صحة نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ الدين عن ربه، وحسبما سنَّه الله من طرق فهمه بلغة العرب التي نزل بها، ورد المتشابه إلى المحكم، والمجمل إلى المفسر.. وأن يكون دور العقل فهم شرع الله، والتمييز بين أخباره، وبين أحكامه، وبين الوقائع التي هي موضوع تطبيق الحكم.. ولا دور للعقل في عصيان الشرع، أو استبداله، أو الإسقاط منه، أو الإضافة إليه.. وما سوى ذلك هو البدعة، واتباع الهوى، والاختلاف المحرم؛ لأن الله لا يعبد إلا بنية الإخلاص، وبنية تمييز العمل الذي أراده الله، فلا يعبد الله إلا بما شرع، ومما شرعه أن لا يعبد غيره، ولا يشرك معه غيره، وكل عمل ليس عليه أمر الشرع فهو رد، ولا يقبل الله إلا ما كان خالصاً لوجهه، وكل بدعة خلاف أمره فهي ضلالة؛ فالسلفية ما عليه الصدر الأول من سبيل المؤمنين الذي هو طاعة شرع الله وفهمه على المنهج الذي أراده الله، وما سوى هذا السبيل فهو الكفر أو البدعة أو الفسق أو اتباع أهواء التقليد.. ومن تعمد الزعم بأنه يؤمن بالله وهو متعمد الكذب باختراع أحاديث باطلة وحكايات ومنامات تخالف دين الله، وتعمد أن يحرف الكلم عن مواضعه بغير دلالة تصحيح من لغة العرب التي نزل بها الشرع، وبغير دلالة ترجيح على مراد منزل الشرع؛ وهو يعلم في قرارة قلبه أنه كاذب على الشرع في كل ذلك: فأمره أعظم من أن يكون غير سلفي؛ بل هو راغب عن دين الله مفتر عليه؛ وذلك هو الكفر.
قال أبو عبدالرحمن: ليكن الاصطلاح بالفاعل، أو موقع الحدث، أو بأي اصطلاح آخر؛ فالمهم أن يكون المفهوم موجوداً في لغة العرب بالأحكام التي أعطاها النحاة هذا المفهوم من استقراء لغة العرب؛ وهكذا كل مصطلح، وهكذا مصطلح (السلفية)؛ فلا يهم أن تكون واردة بنص شرعي؛ وإنما المهم أن يكون مفهومها موجوداً في الشرع بالأوصاف والقيود التي حددها علماء الشريعة.. هذه لمحة لوأد شبهات أهل البدع، وأهل الانسلاخ الذين يكابرون في اشتراط السلفية لدين الله الصحيح الخالص من الشوائب؛ وهي أيضاً لوأد من سلطوا كل تضليل، وحجموا كل متسع، وضخموا كل شبهة تحتاج إلى صحة النقل، أو صحة المراد من الذين أسرفوا في بغض الصحابة رضوان الله عليهم، وتعاملوا معهم كما يتعاملون مع رعاع الخلق؛ والسلفيون هم حملة ديننا، وناشروه، وموسعو الرقعة، وهم رمز تاريخنا الجهوري؛ وأظلم هؤلاء رجل جمع بين العلمانية والارتزاق معاً من البدعيين؛ وهو (خليل عبدالكريم) في أجزاء كتابه الخاسىء (شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة)؛ ولن أطيل في تقرير أن السلفية دين الله الخالص؛ لأن توضيح الواضحات من المشكلات؛ ولأن الحق أبلج، والباطل لجلج؛ وإنما حسبي الرجوع باختصار إلى كلام ربي بأبلغ دلالة لا تقبل أدنى احتمال من التأويل؛ وذلك ببيان أمور: أولها أن الله سبحانه وتعالى بين في سورة التوبة أن المجتمع ليس كله صالحاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل فيهم أعراب أشد كفراً ونفاقاً، ومنافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلمهم، ثم جعل الله له علامة عليهم من لحن القول، ثم علمهم وحفظ أسماءهم أمين سره صلى الله عليه وسلم (حذيفة بن اليمان) رضي الله عنه؛ فإلى هؤلاء، وإلى من شاق الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع غير سبيل المؤمنين، وإلى كيد أهل الكتاب: يعزى كل وهن في القرون الممدوحة.. وثانيها أن الله سبحانه وتعالى بين أن من المجتمع قوماً مذنبين اعترفوا بذنوبهم، خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.. وترجية الله لهم وعد بالعفو عنهم في قوله سبحانه وتعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[سورة التوبة /102]؛ لأن عسى وعد من الله محقق؛ لأنه لا راد لإرادته سبحانه وتعالى.. وثالثها أن في المجتمع قوماً مرجون لأمر الله: إماعذبهم، وإما يتوب عليهم.. وإلى هذين الصنفين يعزى في القرون الممدوحة من ظلم نفسه من المؤمنين بهوى أو جنحة؛ والرجحان أن حكمهم حكم (عسى).. ورابعها أن الله سبحانه وتعالى رسم المنهج الصحيح للسيرة العملية التي هي الدين الخالص، وبين أهلها الذين هم القدوة؛ فقال الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[سورة التوبة/100]؛ فهؤلاء رضي الله عنهم معروفون بأعيانهم واحداً واحداً، وتابعوهم بإحسان معروفون بالموازنة؛ ومنهم ذوو شاهد الحال كالإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وغيره من الأئمة رضي الله عنهم.. واختلاف هؤلاء فيما اختلفوا فيه حق راشد؛ لأنه إما إصابة، وإما صواب؛ فالإصابة موافقة مراد الله في فهم الشرع، وفيها أجران.. والصواب صحة المسلك الشرعي في الاجتهاد حسبما أمر الله به كرد المتشابه إلى المحكم مع قصور الاجتهاد عن إصابة المراد؛ فهذا فيه أجر ومعذرة؛ وأما الاتباع فهو مفهوم كما أسلفت بالموازنة، وبقوله عليه الصلاة والسلام: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).. والصحابة رضي الله عنهم درجات في الفضل، وفيهم من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وفيهم المرجون لأمر الله، و لكن السابقين الأولين هم المقياس، وهم السلف؛ لأن الله وصفهم بالسابقين الأولين، وهذا معنى السلفية.. وخامسها أن هؤلاء السابقين الأولين رضي الله عنهم هم القدوة الراشدة مهما كان بينهم من اختلاف بين الصواب والإصابة؛ لأن من ضمن الله له الجنة فهو قدوة الخير بلا ريب.. قال الله سبحانه وتعالى عنهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[سورة التوبة/100]؛ وهذا خبر من الله سبحانه وتعالى، والأخبار والأخلاق محال فيها النسخ؛ وإنما النسخ فيما جعله الله في أفعال العباد من الشرائع.. ثم وجدنا بتواتر التاريخ أن هؤلاء رضي الله عنهم هم حملة الوحي ورواته، وهم الفقهاء المفتون، وهم أهل الجهاد ونشر الدين، ومقاومة مانحرف أو قصر ممن مر ذكرهم بالدعوة والجهاد، وهم الذين مهروا للعرب القلة المستضعفين ممالك شاسعة اسمها (الممالك العربية، والممالك الإسلامية)؛ فيا شانئي خيار الأمة رضي الله عنهم وقبحكم: سموا لنا من قام بهذه الأعباء الكريمة غيرهم من كل زنديق وطائفي وشعوبي ونحلي وملي متستر كابن سبأ ورفاقه قبحهم الله.
قال أبو عبدالرحمن: إن بناء السلفية، وبناء كل ما تنسبه إلى شرع الله من دلالة صريحة أو استنباطية لابد أن تكون مؤصلة وفق مراد الله في شرعه مما ارتضاه لنا كرد المتشابه إلى المحكم، وأن لا نقول على الله بغير علم.. وبين لنا ربنا سبحانه وتعالى في أكثر من آية أن شرعه بلسان عربي مبين؛ فوجب علينا أن نتقن علم الدلالة من لغة العرب، قارئين مفرداتها وصيغها وحروف المعاني وتركيبها النحوي وتركيبها البلاغي من مصادرها بحضور عقلي ووعي تام؛ مسترشدين بخبرة أهل الاختصاص في كل فن، ولا نقلد إماماً له مذهب متبوع في الفقه إذا تلقينا مسائله الفقهية؛ بل نحلل مباني كل مسألة؛ فنرجعها إلى أهل التخصص في اللغة أو البلاغة أو العلم بالرجال الذين يروون الحديث.. وأرشدنا ربنا إلى أن العقل مسؤول وإن كان الخبر عن العقل يأتي كثيراً باسم الفؤاد واللب والقلب؛ لأن الحقائق التي يحصلها العقل لا قيمة لها إذا لم تستقر إيماناً في القلب؛ لأن إرادة القلب هي التي توجه السلوك؛ ولهذا كان الفلاسفة والمتكلمون الذين احترفوا الشقشقة الفكرية أقل تعبداً من الذين جمعوا بين الفكر والإيمان كالمحدثين والفقهاء؛ فوجب علينا أن نرجع إلى عقولنا نستنطقها حسب فطرة الله لها؛ فلا نلغي من العقل دلالة موجودة فيه، ولا ندعي ما ليس فيه؛ وبهذا نجافي افتراء الباطنية والصوفية الذين ينسبون إلى اللغة والعقل ما ليس فيهما؛ وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين