صبار عابر العنزي
في عام 2010م كنت في السودان في نقاش مع أحد الأصدقاء وهو مهندس زراعي من قومية ليست عربية أغضبه أحد الحضور فقال في لهجة سودانية ضاحكة أنتم «عرب أجلاف زلنطحية « فتوقفت عند هذه المفردة وبحثت عنها لاحقا ووجدت أن « الزلنطحي لها عدة دلالات، ولكن ما يعنيه في كلمته أنه يصف « الشخص الذي يقول ما لا يعمل ولا يفي بما وعد، وهو الذي لا يتوانى عن أي فعل في سبيل تحقيق أهدافه وأحلامه، بما فيها قلب الحقائق ليبرر أخطاءه ويحملها الآخرين، ويكون هو في السليم دائماً، و يلجأ في الغالب إلى الصراخ والصوت العالي، ويسوق الأعذار والمبررات لتغطية موقفه، وإقناع غيره بسلامة موقفه، وأنه مظلوم ومجني عليه، وأن الناس هم من يظلمونه ويتجنون عليه...
ولصديقي السوداني الضحوك ذو القلب الأبيض أهدي بعضا مما قرأت بشكل مختصر موضحا له أن العرب رغم حياتهم القاسية الصعبة المنهكة وتنقلاتهم في عمق الصحراء الحارة والموجعة إلا أنهم تأقلموا مع البيئة وسخروها أرضا ونباتا وحيوانا لخدمتهم وتركوا أثرا باقيا وخلفوا موروثا حضاريا وأخلاقيا توارثته الأجيال من العادات والتقاليد ومجموعة قيم تميزهم عن غيرهم من الأمم والشعوب...
إنهم سباع الصحراء ونمورها رضعوا من ثدي المعاناة والحاجة والصراع من أجل البقاء ونهلوا شيم الفروسية والشهامة والمروءة وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف وورثوا أبناءهم وأحفادهم وأسباطهم هذه القيم فحفروا وراءهم تاريخا مضيئا من الصفات الحميدة التي لم تتغير مع مرور الزمان أو المكان وتطور الإنسان ...
فالعرب أهل «فراسة» وقدرة على استشراف المستقبل من خلال المعطيات التي يراها أو يلاحظها بالدلالات والظواهر كالألوان والأشكال وهو فن استخلاص مكونات الشخصية بمجرد دراسة المظهر الخارجي وملامح الوجه...
بالإضافة إلى ذلك فالعرب أمة كرم، والكرم من أفضل الحسنات عند الله لأنه يدخل في إطار الصدقة والإحسان فقالوا «الكرم غطى كل عيب» كذلك قالوا « الضيف ضيف الله « دلالة على أهمية إكرامه ولا تقف خصالهم عند ذلك بل تميزوا بالعفو عن المخطئ مع قدرتهم على أخذ الحق وتفردوا على كثير من الشعوب والثقافات الأخرى بالمروءة وإغاثة المحتاج ونجدة الملهوف وتقديم العون والمساعدة لمن افتقد شيئا من أمور الحياة وأصبح عاجزا وهذه من الشيم المتوارثة...
وقد قيل: إنه يهون في نظر العربي كل نفيس وغال للحفاظ على عهده، واحترام وعده، ولم تكن الاتفاقيات والأحلاف والتجارات والأمانات موثقة أو مكتوبة، وإنما كانوا يعتمدون على الكلمة أو العهد الذي اكتسب قوة ونفاذاً مع حرص العرب على الوفاء به، خاصة وأن نقضه كان يعرض القبائل والأفراد للمعرة والمنقصة...
وتعددت صور ونماذج وفاء العرب بعهودهم إلى حد يثير الإعجاب، ومن ذلك ما حدث مع هانئ بن مسعود الشيباني الوائلي الذي صمد أمام الإمبراطورية الفارسية ولم يأبه لكسرى ولا تهديداته حفاظاً على وعده الذي قطعه على نفسه بحماية أهل النعمان بن المنذر...
كما ضرب السموأل مثلاً آخر في الوفاء بالعهد، فيقال «أوفى من السموأل» وذلك عندما أودع امرؤ القيس عنده دروعاً وسلاحًا، وذهب إلى قيصر يستنجد به على أعدائه، واستغل هذه الفرصة الحارث الغساني فطلبها من السموأل وأصر على انتزاعها منه، ولكنه أبى وتحصن بقصره في تيماء، وكان ابنه خارج القصر، فأخذه الحارث رهينة، وأخذ يساومه، وهدده بقتل ابنه إن لم يستجب لمطلبه، إلا أن السموأل ظل محافظاً على عهده حتى وهو يرى ابنه يذبح أمامه ذلك بأن العرب كما ذكر عنهم لا يقبلون ذلا ولا هوانا، ولا يقيمون على الضيم، فكانوا إذا تعرضوا هم أو حلفاؤهم لأي إهانة استلوا سيوفهم، وبادروا إلى خيولهم، وصاحوا في أبواقهم وأشغلوها حربا ضروساً، ولو ضحوا بأنفسهم...
وكما قالوا «الحلم أطفأ نيرانا وحقن دماء « على الرغم مما عرف عن العرب من شدة الانفعال، وفورة الأعصاب، فقد غلب على سادتهم وأشرافهم وعقلائهم صفة الحلم، فكانوا يمثلون صوت العقل والحكمة، وكان من أشهر حكماء العرب الاحنف بن قيس صاحب المقولة الشهيرة «سيد القوم خادمهم» ولما سئل بماذا سدت قومك قال: بثلاث « بذل الندى، وكف الأذى، ونصرة المولى «.
ورغم ان العرب اشتهروا بحبهم للزهو والتفاخر، بالآباء والأجداد والأنساب والأحساب والشرف والسيادة، وكثرة الأبناء والأعداد والانتصارات، وتمادوا في ذلك فافتخروا بأموالهم، وما ملكوه من إبل وخيول. هؤلاء هم العرب الذين أصبحوا في هذا العصر إحدى دعائم وركائز النجاحات المتتالية على مستوى العالم ...