د. تنيضب الفايدي
في بداية الحديث لا بدّ من تعريف العنوان، أما الشاعر الأحيمر السعدي من تميم من شعراء العصر العباسي، توفي حوالي سنة 170هـ/ 787م، شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية كان لصاً فاتكاً مارداً من أهل بادية الشام.
يسكن بادية الشام فطرده أهله لكثرة جناياته فجاء إلى العراق وراح يقطع طريق القوافل وصار لصاً فاتكاً مارداً فطلبه والي البصرة فهرب إلى الفلوات وصاحب الوحوش وكان يقول: كنت أتي الظبي حتى آخذ بذراعيه وما كان شيء من بهائم الوحوش ينكرني إلا النعام ولأنه خليع طريد فقد ظل مغموراً وله قصيدة مشهورة مطلعها:
لئن طال ليلي بالعراق، لربما
أتى لي ليل بالشآم قصير
وتاب بعد ذلك عن اللصوصية، ونظم أبياتاً في توبته أوردها الآمدي نقلاً عن أبي عبيدة.
أما جبال أبلى فهي جبال سوداء تمتد من الغرب إلى الشرق في شمال غرب مدينة المهد وتتجه شرقاً قرابة ثمانين كيلاً وعرضها عشرات (كم) وقد وقعت فيها مأساة بئر معونة أو مذبحة القرّاء، حيث طلب رجل من بني عامر للرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث رجالاً من أصحابه إلى أهل نجد ليدعوهم إلى الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو مع سبعين من خيرة الصحابة، كانوا يعرفون بالقرّاء، فنزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، لكنهم غدروا وقتلوا المسلمين، لقد كانت مأساة بئر معونة قاسية على المسلمين؛ فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقنت شهرًا كاملاً يدعو على عامر ورعل وذكوان في كل صلواته حتى الصلوات السرية.
وكنت موجهاً تربوياً للإدارة المدرسية، وإضافةً إلى ذلك كنتُ مسؤولاً عن افتتاح المدارس الجديدة لكافّة أرجاء منطقة المدينة المنورة وتحديد مواقع لدراسة إحداث مدارس جديدة مستقبلاً أو تحريك بعض مواقع المدارس إلى مواقع مناسبة ...،...،...، وكان الموجّه التربويّ وكذا المعلّمون يلتزمون بمكان العمل، حيث يبقون في القرية أو الهجرة الأسبوع كاملاً أو الفصل الدراسي كاملاً أو لبعضهم (ولاسيّما المعلمون من الوطن العربي) وليس باستطاعة المعلم الرجوع للمدينة في نفس اليوم لصعوبة الطرق ولبُعد المسافات وأثناء القيام بعملي وصلت إلى قرية في نطاق جبال أبلى التي حدثت بها مأساة القرّاء ولأن بئر معونة يعتبر قريباً في ظني آنذاك لذا أردت أن أجري بحثاً لتحديدها والوقوف على آثارها، وبعدها نذهب لقرية أخرى قريبة ننام بها لليوم الثاني كعادة الموجه التربوي آنذاك، علماً بأنه لا توجد في الجهة التي أردناها أي خطوط للسيارات أو علامات لتلك الخطوط عدا العلامات التي ترسمها إطارات سيارتنا على أرض بكر، وكانت رحلة مضنية، حيث تعلق السيارة على صخرة ثم أخرى وأنا ومرافقي (السائق) في ارتفاع وهبوط، وأحياناً ترتطم رؤوسنا بسقف السيارة (نوع السيارة كان يطلق عليها بعض الناس غرفتين وحوْش) أي: سيارة لها غمارتان، وأحسست أن مرافقي يبذل جهداً في قيادة هذه السيارة بسبب عدم وجود طريق ممهد، كما شعرت بأنه (مشحون نفسياً) بدليل أنه لا يجيب على أسئلتي التي أوجهها له لأشعره بالاطمئنان، أو يجيب إجابات مختصرة، لا تفيد شيئاً، ومن سفرنا من القرية حتى غروب الشمس لم يقابلنا أحد لنسأله، بل ولم يقع النظر على أي إنسان، لا من الرعاة ولا غيرهم، وجاء الليل ونحن بين جبال أُبلى ومن بعد المغرب صار كلّ ما يحيط بنا يتشح بالسواد وأثناء البحث عن طريق لنخرج من هذه (الورطة كما يسميها مرافقي) ركبت السيارة مجموعة من الصخور، وانطفأ محركها ونزلت ونزل مرافقي، وفي هذا الموقف استشهدت ببيتٍ للأحيمر السعدي يقول:
عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذْ عوى
إذ عوى
وصوَتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ
واستشاط (السائق) غضباً وانفجر في وجهي قائلاً (أذكر الله... أذكر الله وصلِّ على النبيّ). علماً بأن تلك الجبال لا تخلو من الذئب، بل مجموعات من الذئاب، والتزمت الصمت لأن مرافقي ما زال غاضباً وصارت تظهر منه كلمات غير مناسبة ويبدي أسفه ويلوم نفسه كيف وافق على الخروج معي... وصرت داخلياً (أشتم الأحيمر السعدي) وكيف طرأ على بالي ذلك البيت الذي أظهر غضب مرافقي، وللثقافة أذكر بيتين للأحيمر مرتبطان ببعضهما هما:
عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى
إذ عوى
وصوَتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ
يرى اللهُ إنّي للأنيسِِ لكارهٌ
وتبغضهمْ لي مقلةٌ وضميرُ