تعد اللباقة من أهم الفنون التي ينبغي علينا اكتسابها، حيث إنها تعكس مدى سمو الفرد ومستوى تهذيبه وبيئته التي نشأ منها، وهي توضح سعة اللطف والرقة التي يحملها تجاه نفسه والآخرين، وتكشف جزءاً كبيراً من منظوره الحياتي.
واللباقة تدل على الكياسة والحَذق وعلى السلوك الحضاري والذوق الراقي، وهي ركيزة الذكاء الاجتماعي وانعكاس حقيقة مفهومه، فبها يحسن الفرد تعامله مع الآخرين ويراعي شعورهم ويكسب ودهم بطريقة ساحرة تجذبهم إليه ويحقق ما يبتغيه منهم.
إن مفهوم «الإتكيت» ليس مفهوماً حديثاً يختص بالعصور الأخيرة، فقد تجلى في حضارات سابقة قبل الميلاد كبلاد الرافدين في العراق، وفي عهود ملوك سالفة وضعوا مع طبقة النبلاء قواعد رسمية دقيقة للسلوك الاجتماعي المقبول منها تحديد نوع الملابس والمظهر الملائم، وكان تعلم «الاتكيت» سابقاً محصوراً على الطبقة الراقية في المجتمع إلى أن بدأ يسود شيئاً فشيئاً حتى انتشاره في وقتنا الحالي.
ويختلف مفهوم اللباقة باختلاف الثقافات المجتمعية وصولاً إلى المعتقدات الفكرية الفردية، فهي أسلوب حياة ونهج شخصي يقرره الفرد بما يتوافق مع هويته الذاتية وصورته الاجتماعية المنعكسة على المجتمع، ورغم تباين الأفراد والثقافات حول هذا المفهوم إلا أن هناك قواعد أساسية لبقة يُتفق عليها ويتم توارثها.
وتجدر الإشارة إلى أن اختلاف مفهوم اللباقة وممارساتها قد تُوقع الفرد في إحباط كبير عندما تُقابل بسوء فهم يصل إلى الاتهام والتفكير بدوافع السلوك خاصة من قبل الأشخاص الذين لا يتبنون مفاهيم واسعة من اللطف واللباقة، ليسببوا شروخاً مؤذية بعيدة عن المقصد النبيل.
لذلك من المهم قبل القيام بأي ممارسات لبقة استشفاف منظور الآخر، إذ لا يكفي التصرف على السجية العفوية المنفتحة على اللطف، فهناك كم من الأشخاص سواء كنت لبقاً معهم أو لم تكن لن يغير ذلك من طريقة استقبالهم أو تعاملهم ولن يؤثر فيهم، فهم مبرمجون على هذه الطريقة، بل قد يصل الأمر إلى أن تتضرر من لطفك ولباقتك، وقد يستغلوا لطفك كمنفذ يمررون من خلاله فظاظتهم وسخريتهم، ولذا الأفضل تجنب هؤلاء قدر الإمكان وردعهم إن تطلب الأمر.
وعلى النقيض الآخر هناك من يضفي وجودهم رونقاً على عالمنا، يجعلون من اللباقة ترياقاً يشفي من مساوئ الحياة، يلمسون بلطفهم أغوار قلوبنا، ويمدوننا بفيض من الحنو والرقة، فنشعر أننا نتماهى بحضورهم، ويخلقون بلباقتهم قوة ذات معنى لا يدركها إلا أشباههم.
إن اللباقة أناقة اتصال في الحوار والاستماع واختيار الألفاظ المناسبة حتى في أوقات الخصام أو توجيه النقد، كما أنها حذاقة في السلوكيات وردود الفعل، وهي طلاقة معاني لغة الجسد التي يتم إظهارها، فكم من انطباع أولي لا يزال راسخاً في ذاكرتنا لأن الطرف الآخر صافحنا بقوة، ونظر في أعيننا، وابتسم ابتسامة عريضة، وأبدى إقبالاً واهتماماً بوجودنا، وكان صادقاً وطبيعياً بعيداً عن التصنع والتكلف، وهذا دلالة على أن اللباقة فن يُكتسب لينمي قدرات الفرد ويمده بالمزيد من النضج والحكمة والتي بها يفتح آفاقاً واسعة من التأثير.
يمكن القول إنك ما لم تحسن التعامل مع نفسك فلن يمكنك اكتساب اللباقة وممارستها، إذ إن البذرة الأولى لذلك هي احتواء الفرد لذاته وتقديرها والشعور باستحقاقها، لينتقل أثر ذلك التعامل إلى الآخرين، ولا يمكن لأي فرد يسيء تعامل ذاته أن يكون لبقاً بشكل تلقائي مع غيره، وهذه نقطة جديرة بالاهتمام.
إن وجود أفراد متوافقين مع أنفسهم نشأوا في كنف أسر واعية دربتهم على مفاهيم الذوق واللطف واللباقة يُخرج لنا أفراد ينهضون بالحياة، يزِنُون كلماتهم وينسقون أفكارهم ويسددون أفعالهم ويُقوِمون أخطاءهم بكل ثقة وإصرار ليصبحوا نماذج قوة ونجاح وتطوير. تذكر عندما تسعى بصدق أن تكون إنساناً لبقاً أنت تصنع عالماً موازياً يجتذب كل الأقوال والأفعال الراقية، ويحيطه العديد من الأشخاص المتناغمين ذوي القلوب السامية، ويصبح منظورك أكثر اتساعاً، ويعطي وجودك بريقاً للحياة.