م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - في لحظة رمادية بين الحزن واللاحزن تخاذلتْ عضلات جسده وتهدلت ملامح وجهه.. فلم يعد قادراً عن التعبير عما في داخله.. وعجز عن العبوس أو الضحك أو إبداء أي نوع من المشاعر.. تيبس وجهه وأصبح لوحاً محفوراً فيه أنف وفم وعينان.. تراه وجهاً لكنه ليس كالوجوه.. هو وجه كالح شاحب يصلح للتعليق على الحائط.. ويبقى مصلوباً في مكانه كلوحة رديئة الصنع رخيصة الثمن.. وجه لا يعكس شيئاً ولا ينبئ عن شيء.. وجه لا تدري هل هو حي أم ميت.. وجه غير مفهوم فهو غير قابل للفهم.. وجه لا تدري هل هو ساكن لأنه تافه، أو مطمئن لأنه جاهل، أو جامد لأنه خائف.. وجه لا يعرف أحد من هو، ولا من يكون، ولا يهم أحدا ما يريده.. وجه يعيش ما وراء اللحظة كأنه مخدر أو مطحون.. وجه منفصل عن الجسد، ومنفصم عن الشخصية، ومنقطع عن الحياة.. لكن مع هذا تحس أن هناك شيئاً ما خلف هذا التيبس الظاهر على هذا الوجه.. تحس أن خلف صمته كبرياء عارية مسحوقة لا تستطيع قول شيء فتكتفي بالصمت.
2 - مساكين أصحاب الوجوه المكسورة.. لا نرى فيها إلا الشرخ.. ولا نرى في ذلك الشرخ سوى الانفصام عن الوجه.. وأن فيه حزناً كامناً قابعاً في قاعه.. ثم نرى ظِل إنسان يعيش الوحشة ويداري كبرياء محطماً وكرامة مهدرة.. يتيه في أصقاع شاسعة يبحث عن الحنين وعن الحب الذي لم يعرفه.. وحينما عرفه فقده فطارت نفسه شعاعاً متناثرة.. فانسلخ عن محيطه وكَمُنَ في عزلة لم يستطع اختراقها.. ولم يحظ بصداقة أو زواج أو دفء عائلة محبة.. وأصبح يصرخ في داخله ويواجه حقيقة حياته بالعناد والمكابرة، والإصرار على اليأس، والكفر بكل نواميس الحياة.. ويعيش رعباً حقيقياً في داخله.. لديه رغبة جامحة في أن يقول شيئاً عن الثورة التي تعتلج في نفسه.. لكنه يصاب بالفزع مما يريد أن يقوله فيكتفي بالصمت.
3 - ذات مساء أخذ يهذي بينه وبين نفسه: يجتاحني ذلك الحنين العميق أن أقول شيئاً وأن أعترف بما في داخلي أمام عينين التقيتهما هذا المساء.. عينان غريبتان لكنهما اخترقتا مجاهل دواخلي.. يجتاحني ذلك الإحساس العنيف بأن أبوح بصدق وأنتشي بالإفصاح لهما عما يجول في خاطري.. لا أدري لماذا تلك العينين تحديداً أثرتا فيَّ حد الانكشاف والرغبة في الوقوع في أسرهما.. لم أكن أريد منهما صداقة أو حباً ولا أية أحاسيس مستهلكة.. أريد فقط أن أشكو هؤلاء الذين يدخلون القلب من بابه وحينما يرغبون في الخروج يحفرون فجوة في جداره ثم يغادرون! أريد أن أبكي على حالي في حضنه وأُبْدي مكنون صدري في حضرته.. لا أريد أن يأخذ بحقي أو أن يثأر لي.. كنت فقط أريد أن يستمع لي.
4 - ذات صباح قال بصوت واضح جلي: لقد زارتني تلك العينين الغريبتين مرة ثانية.. لقد أحيتا داخلي مشاعر جديدة لم أعرفها.. وبدأ بسببها يلتئم ذلك الكسر في وجهي.. لقد تمكنت من الابتسام.. وربما يوماً ما سوف أضحك بملء شدقي.. لقد بدأت عضلات وجهي بالاشتداد والتعافي.. وأصبحت قادراً على التعبير عما في داخلي من خلال ملامح وجهي.. وحان الوقت أن أنزل من ذلك الحائط الذي طال عليه صلبي.
5 - آه.. ما أجمل الحب.. لقد رمم وجهه المكسور!!