عبدالوهاب الفايز
الخوف من (توحش الرأسمالية) في السنوات الأخيرة أصبح حالة شائعة بين الكثير من المفكرين والاقتصاديين والسياسيين حول العالم، بالذات في أوروبا منبع الرأسمالية، وفي أمريكا المستفيدة الأكبر منها. وأحد البواعث الأساسية لهذا الخوف هو فساد الممارسات السياسية والاقتصادية المؤدية إلى مظاهر انفلات النظام وبروز حالات الفقر والتفاوت الصارخ في الثراء المخل بالتنمية المستدامة.
الآن نرى تدخل الدول الكبرى لتقييد أهم مبادئ الرأسمالية بالذات مبدأ عدم التمييز في التجارة الدولية، وهو المبدأ الأساسي للتجارة الحرة والعولمة. هذا المبدأ يتعرض الآن لأكبر هجوم واجهه على الإطلاق بعد قرار أكبر الاقتصادات في العالم بضرورة مراجعة (عدم التمييز) وإبعاده عن الاهتمامات الأكثر إلحاحًا. وتستند توجهات القيود التجارية المقترحة على جانبي المحيط الأطلسي إلى حماية العمال وحقوق الإنسان ومعايير أخرى مثل حماية البيئة والحد من انبعاثات الكربون.
المؤكد أن استفحال الفساد الممارسات السياسية هو الذي يؤدي إلى الإخلال بمقومات العدالة والمنافسة، وبالتالي تحول النظم الاقتصادية، مثل الرأسمالية إلى الانفلات والتوحش الذي بدأت تعاني منه البشرية، فهو الدافع لمظاهر الشره على الكسب المتسبب في استنزاف الطبيعة، والعلماء يحذرون من الاعتداء على الطبيعة مع بروز ظواهر متناقضة مثل ازدياد حالات الجفاف والفيضانات المباغتة والحرائق المدمرة في مختلف القارات.
تجارب الرأسمالية المتوحشة التي نراها في العالم تعيد لنا صورة التجارب السابقة للشيوعية وللاشتراكية، فالأنظمة تحمل في داخلها تناقضاتها وأسباب فشلها. الاشتراكية رأينا كيف خدعت فقراء العالم ولم تنصفهم.. ونرى الآن الرأسمالية تتخلى عنهم.
إذا عدنا للنظرة الواقعية الموضوعية سوف نجد أن النظام الرأسمالي ليس هو المشكلة، فروح النظام وفلسفته التي ينشدها، بالذات حرية الافراد في التكسب والعيش وحرية الدول في الاستثمار والتجارة، هذه الروح ظلت مصاحبة للبشرية في مسيرتها الطويلة، والنظام مر بتقلبات عديدة سلبية ضارة، أو إيجابية مثل اتجاهه لوضع قاعدة للتنافس وحرية التجارة وتشجيع الاستثمارات المفيدة للاقتصاد ولحياة الناس، وتشجيع المبدعين المثابرين على النجاح ومكافاتهم.
فكرة الشركات المساهمة، في نشأتها الأولى، قامت لمكافأة العصاميين واستثمار نجاحهم، فالعصامي الناجح يتنازل عن جزء من رأسماله (أسهمه) إلى أصحاب المدخرات من الناس الذين لا يعرفون التجارة والاستثمار، فهؤلاء يُقدمون للعصامي الناجح التمويل ليستثمره في مشروعات جديدة منتجة مفيدة للناس وللاقتصاد.. وهكذا تتطور الشركات وتتوسع فرص العمل وتنمو سوق الوظائف.
هذا الجانب الإيجابي المحفز لا يخلو من مشاكله الرئيسية التي تستجيب لدوافع الطبيعة البشرية، مثل الطمع والجشع والإفراط في حب التملك والسيطرة واحتكار الأسواق وخفض النفقات لأجل الربح بأي ثمن أوخوف.. سوى الخوف من مخالفة القوانين الضريبية. وهذه الأخيرة يمكن التحايل عليها، وهذا الذي دفع مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى مؤخرًا إلى اتفاق، وصف بالتاريخي، على فرض ضرائب 15 بالمئة على الشركات متعددة الجنسيات لمحاربة التهرب الضريبي في الملاذات الآمنة.
الرأسمالية المتوحشة، في أحد أسوأ صورها، هي التي تقر حرق وإتلاف المحاصيل الزائدة عن حاجة الأسواق حتى لا تتأثر الأسعار! وأيضا أسوأ مظاهر الرأسمالية المنفلته المستجدة نراه في تطور التواصل الاجتماعي الذي فتح الحدود وأزال العوائق أما حرية الأفراد وغرائزهم، فـ (المؤثرون في التواصل الاجتماعي)، والذين أصبحوا يوصفون بـ (سادة الخداع) masters of deception، نرى في سلوكهم صورة لانفلات الرأسمالية، حيث تسيطر عليهم حالة الجشع ورغبة الثراء السريع، وتجد فيهم الشركات الكبرى فرصتها لتسويق المنتجات الضارة، مثل بعض مستحضرات التجميل والتخسيس.
الأمر المزعج في هذا الخصوص هو اتجاه المؤثرين والمؤثرات لـ(بناء حالة وهم) تقول للمراهقين: النجاح في الحياة يأتي عبر الثراء السريع، والتحكم في الجسد وبيعه هو الأسهل والأسرع للثراء.. وبالتالي تحقيق السعادة! هذا الانفجار في تسويق منتجات الوهم صورة جديدة لانفلات الرأسمالية المعاصرة، فقد فتح المجال للفساد المالي والأخلاقي وجعل المؤثرات والمؤثرين خطر حقيقي على السلام الاجتماعي!
الفساد هو مصدر الخلل الأساسي في النظام الرأسمالي، وهو الذي يجعلنا نرى دولا بموارد طبيعية بشرية كبيرة توضع في إطار الدول الفقيرة، وأخرى بدون موارد طبيعية ولكنها تتمتع بالوفرة الاقتصادية والمالية والرخاء الاقتصادي.
والحمد لله نرى في بلادنا كيف يتم بكل حزم تعزيز النزاهة والشفافية ومحاربة الفساد حتى لا تتسع دائرة الفقر وتختل مقومات التنمية، وحتى لا تتراكم الثروات وتكون (دُولة بين الاغنياء)، لذا تتم محاربة الفساد المالي والإداري. وتصحيح الخلل الناشئ عن الفساد يتم عبر (رفع مستوى حوكمة الإجراءات والممارسات) في أداء الحكومة، وممارسات القطاع الخاص وحتى القطاع الثالث. وأيضا يتم تشديد العقوبات على المتورطين في الفساد. ويتزامن هذا مع تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي والأنظمة ذات الأهداف الاجتماعية والإنسانية كالضمان الاجتماعي ورعاية الشيخوخة والبطالة والعجز والرعاية الصحية وتحسين الخدمات لأجل رفع مستوى المعيشة للناس.