د.ملك نبيل حلبي
لم أكن أعلم حين ساقني القدر من لبنان للمملكة العربية السعودية للإقامة والعمل فيها أنني سأؤدي فريضة الحج بهذه الظروف الاستثنائية. تجربتي بحج 1442هـ فريدة، جعلتني أُخلق من جديد، ولم يكن ذلك ممكناً لولا جهود المملكة الجبارة في إدارة وتنظيم الحج.
قدمت مثل الكثيرين عبر بوابة وزارة الحج الإلكترونية وعندما وصلتني رسالة إمكانية حجز مقعدي للحج، شكرت الله تعالى لأنه وضع الحج بأيادٍ أمينة لا تفرق بين عباده وتختار شخصاً على حساب آخر، والدليل ما قابلته من أناس ينتمون لجنسيات مختلفة في الحج. بكل شفافية، تم اختيار الحجاج وفق معايير تضمن الحج بأمن وسلام ووفق آلية تعطي الفرصة لمن «استطاع إليه سبيلا» بالفعل فلم يعقه الحجز في مدة زمنية محددة. لم يكن حسن التنظيم فقط في اختيار ستين ألف حاج من أصل ما يقارب نصف مليون متقدم للحج، بل أيضاً خلال رحلة الحج كاملة حيث كانت الاجراءات الاحترازية تطبّق بأدق تفاصيلها، وقد تم توفير كل ما يلزم لتأدية المناسك على أكمل وجه.
والملفت أن العاملين على الأرض من شرطة وغيرهم قد كرسوا أنفسهم لخدمة ضيوف الرحمن وليس فقط لتأدية الواجب، فتجد الواحد منهم يقدم الماء لحاج ظمآن والآخر يهمس بدعاء القبول لحاج يتضرع لله تعالى... أمثلة لا تعد ولا تحصى عن تكامل العمل الخالص لوجه الله تعالى، أمثلة جعلتني أدعو بعفوية تامة لكل من صادفتهم بالخير وللمملكة بدوام مجدها وأمنها وأمانها ولقيادتها الرشيدة، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين وولي عهده، بأن يحفظهما الله من كل سوء ويبارك لهما في جهودهما.
هذا التنظيم والدعم المقدم قلباً وقالباً لا يمكن أن يلمسه إلا من كتب الله له الحج لأنه حوّل المشقة التي يعاني منها الحاج إلى فرصة عظيمة للتمتع بما سعى إليه. هذه الجهود الجبارة جعلت طريقي للحج مفعماً بالراحة، مكرّساً للطاعة، وجعلني جاهزة لتلقي دروس الحج وما أكثرها.
حين أكرمني الرحمن ودعاني لتأدية فريضة الحج، لم يسعني قلبي من الفرح وأبرز ما خطر ببالي ثلاث نقاط: أولاً، أداء الفريضة وابتغاء رضى الله تعالى. ثانياً، محو ذنوب الماضي. ثالثاً، رفع سلسلة لا متناهية من الأمنيات للواحد الأحد ليحققها لي. وأظن أن غالبية الحجاج مثلي.
ظننت أن الحج هو فقط الصلاة والدعاء، وذلك من خلال أداء مناسك معينة، ولم أعلم أن هذه المناسك هي للتربية، نعم للتربية.
حين دخلت مخيم مِنى ورأيت مكان إقامتي التي يتلخص بسرير بسيط بغرفة مشتركة ليس فيها من الرفاهية شيء ننام فيها دون تذمر عرفت أنه بدأ ترويضي، شعرت بما يمكن أن يتعرض له أي إنسان سواء كان جندياً على الجبهة أم فقيراً أم سجيناً أم محروماً...
حين دفعني الجوع لآكل مما لم أتعود عليه وأتشارك الطعام مع أناس من مختلف الأشكال والألوان أدركت أن الله حق، وبخاصة أن هؤلاء الناس لا أتميز عنهم بأي شيء، أدركت أن الله ساوى بيننا حين تم اختيارنا لهذا الحج الاستثنائي، وبالتالي لا يمكنني التعالي على أحد.
حين دخلت عرفة ووقفت عند جبل الرحمة ملبية كما الكل، أدركت انكساري وكم أن مصيري بيد واحد أحد، إن أخذ فتّش وإن أعطى أدهش.. تضرع وبكاء وسكون وسماء تكاد تتكلم. سجود وأيادٍ مرفوعة للسماء راجية، وكلها يقين أن الرحمن الرحيم موجود هنا. كل مع نفسه أو بالأحرى مع الله تعالى يشاركه ما يجول بخاطره ويسأله تعالى من خير ما عنده.
رُفعت الأصوات «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، أدركنا أن الله قريب، وأن نحمد الله على أمور تعودنا على وجودها، فظننا أنها حق مكتسب وهي نعم وزعها علينا الله من ملكه هو وحده.
مُزدلفة وما أدراكم ما مزدلفة.. الغني والفقير والمسن والشاب في أبهى صورة لأصل الإنسان: من التراب وإلى التراب يعود. بعد الإقامة في خيمة، ها نحن نفترش الأرض ولا سقف يحمينا سوى سقف السماء، لا شيء، الإنسان والأرض والسماء فقط لا غير.
ليلة واحدة من أركان الحج كافية لتذكرك من أنت، ومن أين أنت، وإلى أين أنت ذاهب، ليلة واحدة، بل ساعات قليلة تجعل الإنسان يحصل على درس مركز عن الدنيا والآخرة، الإنسان والطريق الذي يختاره يلخّصه هذا المكان الذي فيه من ظلم الليل وفجر النهار.
رمي جمرة العقبة التي ترمز إلى طاعة الرحمن وإلى رمي إبليس بالحصى اقتداء بسيدنا إبراهيم عليه السلام يعتبر درساً بالتعامل مع ما نشهده كل يوم من وسوسة تبعدنا عن طريق الحق، كم من مرة وسوس لنا الشيطان بالسوء وصدقناه؟.. كم من مرة نجح في إبعادنا عن طريق حق؟.. كم من مرة جمّل لنا خطايانا لدرجة أننا شعرنا أنها الحق؟..
رمي الجمرات هو درس بالتعامل مع أنفسنا الأمّارة بالسوء، درس يعلمنا كيف نقول لا، كيف يكون لدينا يقين مطلق بما يطلبه الله منا كل وفق قدراته.
دروس ودروس لا تحصى في فترة زمنية قياسية، تدريب وتطبيق عملي لملخص الحياة في الحج، وكل ذلك يتم بطمأنينة وسكينة مطلقة، وكأن كل حياتك كانت كذلك ولم يتغير عليك شيء، ولا شيء مما كان يزعجك سابقاً يؤثر بك، بل تشعر بشعور غريب وكأنك شخص آخر، وكأن الشخص الذي في الحج هو الجزء الصالح منك، الشخص الذي سيبقى ليكمل مسيرته في الحياة وفق ما ارتضاه الله له.
ما بعد الحج ليس كقبل الحج، لأن من يرى الحقيقة ليس كمن غفل عنها، ولم أكن لألقى نفسي بعد الحج كما الكثيرين من حجاج بيت الله الحرام إلا بفضل الله تعالى، الذي سخّر لنا المملكة العربية السعودية لإتمام فريضة الحج ووضعنا بأياديها الأمينة.
*** **
- أستاذ مساعد لغة فرنسية بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن