هذه رحلة من رحلات الحج التي حبّر سطورها فقيه وعالم من علماء الإسلام، ورمز من رموزه، وهو: الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (ت 1373هـ)، والتي كانت عام 1329هـ، ولم ترَ النور إلا قبل خمسة أعوامٍ مضت، فقد كانت نقطة الانطلاق من نجف العراق مروراً بكربلاء فالكاظمية فالفلّوجة والرمادي وَهيت وغيرها من المواضع التي يمرّ بها حاج العراق آنذاك، وقد كان المرور بعدها إلى الشام فدير الزور ثم تدمر، ثم التوجه بالقطار إلى تبوك فمدائن صالح التي صارت للشيخ فرصة لزيارتها حال تعطّل القطار، وقد وصف الشيخ الحاج مدائن صالح وصفاً بديعاً لمقدرته العالية في صياغة أفكاره، لما يُعرف عنه من كثرة الاطلاع في كتب الأدب واللغة والشعر والتي انعكست في خطاباته وكتاباته، وهو ما جعل استشهاده بالشعر في هذه الرحلة كثيرٌ، حيث قال عن مدائن صالح: (فلما بلغتُها وجدتُ الحجرات في أوساط الجبال والغُرفات في أعاليه في كثرة يعسر عدّها، وكل تلك الجبال بمكانٍ من الصلابة بحيث لا يحصّل الظِفر منها ولو عمل جهده ذرّة؛ فكأنها مذاب من الحديد مصبوب في قوالب، والحجرات متقاطرة في شلخ تلك الهواضب وقرارها).
استغرقت الرحلة من العراق إلى المدينة المنوّرة خمسة أيام، وكان دخولهم المدينة عن طريق باب العنبرية، ويصف تشرّفه بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بقوله: (ثم تشرّفنا عصراً بلثم أعتاب الحضرة النبوية، فشاهدنا مشهداً كريماً ومسجداً عظيماً يدهش الرائي، وينعش الجائي في إتقانه وإحكامه، وحسن تنسيقه ونظامه، وبديع هندسته ورائع زينته وزخرفته، وتحليته الذهبية، ونقوشه الملوّنة، وأساطينه الرخامية الرفيعة، وسواريه الشاهقة المنيعة) وهكذا يصف بقية ما حواه المسجد، من بيبانه وقبّته واسطواناته وغيرها من المحتويات بوصفٍ بديع رائع، وكما هو حال بقية الحجاج في التوجه لزيارة البقيع وقبر سيّد الشهداء الحمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه في أُحد.
وبعدها كان التوجّه نحو مكة المكرّمة مع المحمل الشامي لما فيه من الحراسة النظامية، وقد تعرّضوا في طريقهم إلى مضايقات بعض قاطني تلك المنطقة التي يمرّ الحاج بطريقهم لأخذ (الخاوة) أي: مبلغاً من المال وقد وصف تلك الحالة بقوله: (... وهم يرون - أي: من استوقفوهم - قتل الحاج وسفك دمه غنيمة فوق سلب ماله، ولا تجوزهم قوافل الحاج إلا وقد ضحّوا جملة من النفوس المحرّمة في ذلك الطريق، رمياً بالبنادق، أو رضخاً بالصخور، أو شدخاً بالعمد). وقد كان المرور بعدة مواضع ذكرها ووصَفَ حالها، وحال وصولهم مكّة المكرّمة شرعوا في أعمال الحج من الطواف والسعي فالذهاب إلى عرفات وبقية المشاعر لإتمام الفريضة، وقد قال عن مِنى: (ولـمّا أتينا مِنى وجدناها بلدة عامرة ذات عمارات أنيقة، وأزقّة متّسعة مستطيلة، وموقعها شرقي مكّة وهي شعب من شعاب تلك الجبال التي لا يحصيها العدّ ولا يعدّها الإحصاء، ونزلنا في ميسرة الجبل إلى جنبِ مسجد الخيف)، وقد منّ الله عليه بالتشرّف بالدخول إلى (جوف الكعبة) مع بعض الأعيان والتي قال عنها: (هي حجرة كبيرة واسعة مربّعة تزيد على عشرة أمتار في مثلها بأبعادها الأربعة، وترتفع عن أرض المسجد والمطاف بأكثر من قامة وهي من الأرض إلى قاعتها مكلّسة بالصخور، مفروشة بالصخور المرمرية الأنيقة الملوّنة ...) ولم يترك وصف بقية مشاهداته في الحرم المكي الشريف، من حجر إسماعيل ومساحة المسجد الحرام وغيرهما.
بعد الانتهاء من الحج اختار الرجوع إلى المدينة بدلاً من سلك طريق البحر بعد مشاورة أهل المعرفة والدراية، وحال وصولهم المدينة قاموا بزيارة سيد الشهداء وبقية المساجد التي يزورها الحجّاج، كان من ضمن زياراته أثناء إقامته بالمدينة المنوّرة زيارة (مكتبة عارف حكمت) التي وصفها وصفاً دقيقاً لعشق الشيخ للقراءة والبحث في الكتب وذلك لوجود مكتبة شخصية كبيرة في بلده، حيث قال في وصفه المكتبة: (... ففزعتُ إلى أعظمها وأشهرها وهي مكتبة شيخ الإسلام في الآستانة (عارف حكمة) من أعيان أوائل القرن الثالث عشر، ومكتبته إلى جنب الحرم النبوي مما يلي باب جبرئيل)، وقال: (أما عددها فنفس العدة التي أوقفها ذلك الشهم الغيور العارف، وجاء بها من الآستانة إلى تلك البقعة المقدّسة، ثلاثة عشر ألف كلّها من نفائس الكتب القلمية المجدولة بأنواع الذهب، وأحسن الزينة، وأجود الخطوط، وأكثر الكتب مخطوطة وهي حتى الآن غير مطبوعة ولا متداولة، وفيها ما لم نسمع به فضلاً عن عدم رؤيته ...).
ومع ختام الرحلة كان وصف طريق العودة من المدينة إلى الشام عن طريق المقطورة، مع حرص الشيخ على ذكر محطات الوقوف والمواضع التي يمرّ بها الحجاج.
مع هذا الإيجاز، لا زالت رحلات الحج فيها الشيء الكثير الذي يصوّر ويحفظ لنا تاريخ الحجاز ومواضعه وأحداثه وتراثه وأعلامه، مع تركيز بعضهم وصف جانب على جانب آخر، كلٌ وحسب اهتمامه وما يشد انتباهه.
** **
- عبدالله بن علي الرستم