خالد بن حمد المالك
في أحزاننا أنواع، وفيها مستويات، ومنها وبها يكون التعبير لا شعورياً عن تداعيات كل خسارة بحسب مكانتها وأهميتها وقيمتها، بما لا يمكن أن نتجاهله، أو نغض الطرف عنه.
* *
الحزن في وفاة من نحب، غير الحزن في خسارة مال، غير التأثر لفقد عمل أو وظيفة، وليس كمثل أن تفقد أي شيء؛ فالموت غياب أبدي، ومعه تغيب مواقف، وتختفي مبادرات، ولن نرى بعد اليوم تلك الشخصية التي أبهرتنا كثيراً في حياتها.
* *
وفي موت الكبار تتسع مساحة الحزن، وتكبر دائرة المواجع، وتفيض من المآقي المزيد من الدموع، دون أن نقوى على منعها أمام موت هذا النموذج من قامات الرجال، أو أن نواجهها بحسب ما نريد، بينما نحن في حالة عجز متمكِّن من أن نعبَّر عن حالتنا سواء بالصوت أو الكلمة.
* *
هكذا أنظر إلى الشيخ ثنيان بن فهد الثنيان، -عن بعد- وهو مسجى حيث تمت الصلاة عليه ثم وهو يرقد الآن في قبره في مقبرة العمارية، بعد أن لحق بالصالحين من الأموات -إن شاء الله- فأتذكره بكل ما كان عليه من بهاء، ورجولة وكرم، وخصال لا حدود لها: في الشهامة، والطيبة، ومحبة الناس، وقضاء حوائجهم، والشفاعة لمن يحتاج إلى الشفاعة منهم.
* *
يتميز الشيخ ثنيان -رحمه الله- عن غيره بخصوماته، لكنها خصومات لم تكن لمصلحة شخصية، وإنما كان دافعها ودواعيها الدفاع عن مصلحة الوطن؛ فهو فارس لا يلين له جانب متى ما رأى أن الذَّب عن الوطن ومصالحه هذا زمانه ووقته، كما فعل في مواقفه مع شركات الكهرباء والغاز والجبس، وهو أحد مؤسسيها.
* *
لكن هذه الخصومات لم تكن تبعده عن صداقة ومحبة من يكونون طرفاً مخالفاً لما يراه، بل إنه يحرص أشد الحرص على أن يترك باب الود والتعاون معهم دون أي حساسيات، يلتقيهم في مكاتبهم في مناقشات ليس بالضرورة أن تنتهي لصالح مواقفه، ومع ذلك فحبل التواصل معهم لا ينقطع، وهم ضيوف في منزله من حين لآخر.
* *
إنه يتصرف تصرف الرجل الحكيم العاقل المحب لوطنه، المخلص لإخوانه المواطنين، باجتهادات قد تصيب حيناً، ولا تكون كذلك أحياناً أخرى، مثله في ذلك مثل كل الرجال الغيورين الذين وضعوا إمكاناتهم وخدماتهم ووقتهم في خدمة الوطن والمواطن.
* *
الشيخ ثنيان بن فهد الثنيان -رحمه الله- قامة وطنية كبيرة، وذو حس وطني وإنساني عالي السقف، وأنيس وونِّيس في مجلسه، وله من الصفات ما لا يمكن حصره؛ فهو مثقف، ويقرأ بنَهَم، ولديه مكتبة عامرة بأهم الكتب، والمخطوطات، والصحف، ويُعَدُّ مرجعاً في تاريخ الرياض وأسرها.
* *
والفقيد الذي سيترك وفاته فراغاً كبيراً لدى محبِّيه، صاحب علاقات واسعة مع أعضاء الأسرة المالكة الكريمة، وخصوصًا مع الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي تعوَّد على تشريف المرحوم بزيارته خلال فترة مرضه من حين لآخر، تثميناً منه لما قدَّمه الشيخ ثنيان من خدمات للوطن منذ بواكير شبابه وإلى حين أقعده المرض خلال السنوات الأخيرة.
* *
لقد ظلَّ الشيخ ثنيان يستقبل يومياً في مجلسه الزوار من كلِّ أطياف المجتمع، فيتحوَّل المكان إلى أشبه بالمنتدى، تُناقَش فيه كل الأمور والقضايا الاجتماعية، بروح من المحبة، والرغبة في معرفة تاريخ هذه البلاد، ورموزها، وشخصياتها، والمؤثرين فيها؛ وكان الفقيد حجةً في كل موضوع يتم إثارته أو التطرق إليه.
* *
أكتب عن فقيدنا الغالي عن معرفة - وإن خانني التعبير- عن الوفاء لرجل أثير عندي، ويستحق مني الكثير من الكلمات، فقد ربطتني به صداقة ومحبة، وجمعتني به مواقف، وأكرمني بالثناء عليَّ في مجالس لم أكن من بين حضورها، وخصني أكثر من مرة في دعوة آخرين لتناول طعام العشاء على شرفي، بل إنه كان يدعوني لأكون الوحيد من غير أسرته الذي أتشرف بحضور زيارات الملك سلمان له في منزله، وما لم أقله أكثر، وما يجب أن أقوله أنني مقصِّرٌ في حقه، وليس عندي غير الدعاء له؛ بعد أن تركنا لأحزاننا ودموعنا.
* *
رحمك الله أيها الرجل النبيل، وجعل منزلك في آخرتك روضة من رياض الجنة، وألهم ابنك فهد ووالدته وشقيقاته وأسرة آل ثنيان الصبر، فأنت خسارة، وأنت لا تعوَّض.
* *
وأنت يا فهد بخُلقك وتواضعك وكرمك ورجولتك، وما اكتسبته من والدك من صفات تعلمتها منه، فيك وبك الأمل بأن تملأ الفراغ الذي تركه والدك، وأن تواصل مسيرته، وتحفظ له -رحمه الله- ما كان عليه من نُبل وشهامة ومحبة للناس.
* *
اللهم ارحم شيخنا ثنيان بن فهد الثنيان، واشمله بعفوك ومغفرتك، واقبله مع الصالحين، وأغدق عليه بكرمك في مسكن له في جنات النعيم، واجعل ما عاناه من مرض تكفيراً، وارحمه يا أرحم الراحمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير.