د.عبدالله بن موسى الطاير
نشرت شبكة CNBC الأمريكية تقريراً عن تمويل سعودي لمنصة إخبارية رقمية، حيث تبدأ المملكة جهود ضغط جديدة تستهدف البيت الأبيض والكونغرس. يقود تأسيس المنصة الإعلامي اللبناني المقيم في أمريكا إيلي ناكوزي، بدعم الشركة السعودية للتطوير والاستثمار التكنولوجي (تقنية)، وفقًا لوثائق الإفصاح التي قدمت لوزارة العدل الأمريكية.
للعودة بالذاكرة للوراء، فقد تفاجأت وأنا أحضر مؤتمر جمعية دراسات الشرق الأوسط MESA في مدينة أورلاندو الأمريكية في خريف 2000م بعدم وجود أي مؤسسة تقدم البعد الإنساني والثقافي والفكري للرأي العام، وتعبر عن متانة العلاقات السعودية الأمريكية. فأعددت مشروعاً لتأسيس جمعية للدراسات السعودية الأمريكية، وأرسلته لأحد المسؤولين الذي تحمس للفكرة، ومنذ 21 عاماً لم أتلق رداً على المقترح.
ولما فجأتنا أحداث سبتمبر 2001م أسست مركز الدراسات السعودية في واشنطن، وذلك قبل أن ينشئ الإيرانيون المجلس الوطني للعلاقات الأمريكية الإيرانية NIAC. وشاركني التأسيس عدد من أصدقاء المملكة من الأمريكيين والعرب والمسلمين الأمريكيين، ووجدنا ترحيباً من الإعلام والجامعات والمراكز الثقافية والأكاديمية والبحثية فقد كانوا يبحثون عن معلومات وآراء موضوعية بعد أن أصبح الجميع ضد المملكة. بالتوازي مع الترحيب الكبير الذي وجدناه في أمريكا، فقد خذلنا من بعض المسؤولين في المملكة. أحدهم صدمنا بموقفه غير المبرر، فقابلته بعد نحو أربع سنوات وفي فمي سؤال كبير: لماذا أسهمت في وأد تجربة كانت قابلة للحياة والنجاح؟ فكانت الصدمة الأكبر أن موقفه شخصي من أحد المؤسسين السعوديين في مجلس أمناء المركز.
لماذا اجتر هذه التجربة المريرة؟ لأنه منذ 21 عاماً لم نتقدم خطوة للأمام. لم نؤسس كياناً يليق بعلاقات الصداقة السعودية الأمريكية، وبالتالي لم نتمكَّن من تقديم الإنسان السعودي بثقافته، وتعليمه وفكره، والوطن بتنوعه وثرائه، وإنما بقيت صورة المملكة حبيسة الأنماط السلبية السائدة.
العمل على الساحة الأمريكية يتطلب أناساً يؤمنون بالمملكة قبل إيمانهم برسالتها، وعلى استعداد لتحمّل المشاق في سبيل خدمة ما يؤمنون به، وإذا تفحصنا جهود الدول الأخرى الناجحة في أمريكا سنجد أن من يقومون عليها ينحدرون من تلك الدول، أو يرتبطون بها أيديولوجياً، ومن الأمثلة على ذلك AIPAC المعنية بالترويج لإسرائيل وNIAC المعنية بالترويج لإيران. ربما لم يكن لدينا عام 2000م كوادر سعودية مهتمة ومقيمة في أمريكا، لكن اليوم يوجد سعوديون يمكن أن يسهموا في هذا الجهد، وتوجد فرص كبيرة للعمل هيأتها شبكات التواصل الاجتماعي.
تكوين جماعات الضغط لا ينشأ بقرار، والذين يمارسون الضغوط على البيت الأبيض والكونجرس شخصيات ليست معروضة في الإعلام ولا في منصة «لينكد إن» لاستقطابهم؛ فهم كبار المستثمرين، وكبار تجار النفط، والصناعات العسكرية والأصدقاء الذين بنوا مع المملكة ومن بعدهم أبناؤهم وأحفادهم منظومة من المنجزات على مدى تاريخ العلاقات السعودية الأمريكية. هؤلاء هم «اللوبي» السعودي في أمريكا وهم كثير.
أما تصحيح الصورة الذهنية للمملكة فشيء آخر، تقوم عليه شركات العلاقات العامة وتستهدف الرأي العام بأطيافه المختلفة، وأجزم أن أكبر العوامل التي تحدت الصورة النمطية للمملكة هي القرارات الجريئة التي اتخذتها القيادة السعودية فيما يخص الاقتصاد وتمكين المرأة وفتح البلد للسياحة وإعادة اكتشاف المناطق الأثرية، ولقاءات الأمير محمد بن سلمان مع الإعلام الأمريكي والسعودي. وأستطيع التأكيد من واقع تجربة ومتابعة للشأن الأمريكي أن الأمير محمد بن سلمان قد أجاب عن الأسئلة الصعبة التي كنا نحتار في صياغة أجوبة لها عندما نواجه الأمريكيين في المؤتمرات والإعلام. الأمير قدَّم أجوبة حساسة بدءاً من العلاقة بالدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى ثروته الشخصية.
ما ينقصنا على الساحة الأمريكية ليس جماعات ضغط بحد ذاتها، وإنما العمل على وضع أجندة لهذه الجماعات، والتواصل الفعَّال معها من خلال مؤسسات تستفيد منها شركات العلاقات العامة وجماعات الضغط على حد سواء. حملات العلاقات العامة لا تستطيع أن تعمل بدون محتوى يصنعه مركز متخصص، وجماعات الضغط لا تتحرك بفعالية بدون محتوى وتحليل للمشهد تصنعه مراكز الدراسات والفكر. قبل هذا وبعده، فإن القيادة السعودية الشابة الممثلة في الأمير محمد بن سلمان سيودع عنها في ذمة المكتبات التقليدية والرقمية كم ضخم جداً من المحتوى المتمثِّل في الأبحاث والأوراق العلمية والكتب، فكم نسبة المحتوى الموضوعي من تلك المواد الضخمة؟ إذا لم نضع خطة لتعزيز المحتوى الإيجابي في محاضن الفكر ومنصات الذاكرة النخبوية والجمعية فإن حملات شركات العلاقات العامة التي تتعامل مع سمعة بلادنا ستبقى سطحية غير مؤثِّرة، وجماعات الضغط الموالية ستكون عديمة الجدوى، لأنها لا تعرف ماذا تريد المملكة ولا ما هو موقفها من القضايا الملحة.