عبدالرحمن الحبيب
هل كان من الممكن أن تتعرَّض هيروشيما للقصف لو احتوت اللغة اليابانية على عبارة تعني «لا تعليق»؟ تقول خبيرة الترجمة آنا أصلانيان إن الترجمة الخاطئة ربما لعبت دورًا في القصف الذري الأمريكي على اليابان عام 1945، فالرد الرسمي لليابانيين ذكر «موكوساتسو» على إعلان بوتسدام الذي يطالب اليابان بالاستسلام.. هذه الكلمة لها معانٍ عدة: «عرض عدم التعليق على»، «القتل بصمت»، «التعامل مع الازدراء الصامت».. مال الأمريكيون نحو التفسير الأخير باعتباره إهانة وتحدياً مما ساعد على تحديد مصير هيروشيما المأساوي.. وكانت إحدى الفجوات الخطيرة هي الفشل في إنذار الحلفاء لاستسلام اليابان، إذ إنه لم يكن طلبًا للاستسلام غير المشروط، بينما اعتبرته القيادة العليا اليابانية مطلبًا للاستسلام غير المشروط ورفضته.
من هي «أم كوزما» ولماذا كان الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف مهووساً بها بشكل خطير؟ خلال مناقشة حول الشيوعية مقابل الرأسمالية في أتون الحرب الباردة، تفاخر خروتشوف بأن الاتحاد السوفييتي «سيلحق ويتجاوز الولايات المتحدة، وسنريكم «أم كوزما»! أصيب المترجم بالذهول وقال شيئًا حرفيًا عن والدة كوزما؛ بينما «أم كوزما» هي جزء من الاصطلاح الروسي تعبيرًا عن تهديد أو عقوبة غير محددة، مثل «تعليم شخص ما درسًا بقسوة».
سوء الفهم البسيط في الترجمة يمكن أن يصل إلى معنى بعيد تماماً عن المقصد.. وهذا ما تطرحه أصلانيان عبر العديد من القصص المفعمة بالحيوية في كتابها «الرقص على الحبال: المترجمون وتوازن التاريخ»، الذي يتناول أدوار المترجمين التحريرين والمترجمين الفوريين الشفويين في اللحظات الحاسمة في التاريخ.. والسيدة أصلانيان هي نفسها مترجمة فورية وتحريرية، نشأت في موسكو وتعيش في لندن.
من الصعب أن يمضي مسار الدبلوماسية بسلاسة، بدون المترجمين الفوريين، لكنهم نادرًا ما يحصلون على حقهم من التقدير. وكذلك المترجمون التحريريون الذين يترجمون الكتب العلمية والفكرية والأدبية وتوضع أسماؤهم في صدور الأغلفة، لكننا قلما نقرأ أسماءهم أو نعرف اسم مترجم واحد كمبدع. بالمقابل، منذ عام 2016، قام المشرفون على جائزة بوكر الدولية للرواية بتقسيم الجائزة المالية بالتساوي بين المؤلفين ومترجميهم (مجلة إيكونيميست).
ترى المؤلفة أن المترجمين غير مرئيين في أذهاننا، وسيشعر الشخصان اللذان لا يتشاركان لغة واحدة أنهما يتحدثان مباشرة، فالمتحدثون يشطبون المترجمين الفوريين؛ ويتعامل المستمعون بوقاحة معهم، كما لو أنهم (وليس المحاور الفعلي) قالوا شيئًا مرفوضًا. وبالتالي، يمكن للمترجم المسكين في الوسط أن يميل إلى تنظيف أو تلطيف ملاحظة وقحة.. لكن المؤلفة ترى أن العثمانيين جعلوا من «الترجمان» وظيفة قوية، وكان الترجمان الكبير نائبًا لوزير الخارجية.
الترجمة التحريرية مختلفة عن الفورية، فهي تتم بانعزال المترجم مع راحة نفسية من الضغط المباشر، لكنها الآن في العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي تحت ضغط اقتصادي هائل، إذ تنافسها الترجمة الآلية الإلكترونية. ذلك ما دعا دوجلاس آدامز، مؤلف كتاب «دليل المسافر إلى المجرة» إلى اتخاذ موقف ساخر مضاد: «فسمكة بابل (برنامج ترجمة آلية) التي كانت عالقة في أذنك توفر على الفور ترجمة مثالية لجميع اللغات، فهي المسؤولة عن الحروب أكثر من أي شيء آخر في التاريخ.» لكن للمؤلفة موقف متوازن بشكل لافت للنظر، إذ لا ترى كل شيء سيئًا في برامج الترجمات الآلية وحتى ترجمات جوجل تتحسَّن بسرعة.
يعرض الكتاب لما واجهه المترجمون الشفويون من المواقف المحرجة والطريفة والغريبة.. واحدة من أكثر الحلقات الطريفة التي ترويها المؤلفة هي المأدبة والخبز المحمص بمؤتمر «الثلاثة الكبار» في طهران عام 1943.. فمن المثير أن ستالين كان يتحدث باختصار تسهيلاً للترجمة، فكانت فقراته قصيرة ويتوقف مؤقتًا للمترجم الفوري، الأمر الذي نسيه تشرشل وروزفلت.. في المأدبة الأخيرة، تم اقتراح نخب للمترجمين الفوريين كعربون شكر.. ويُزعم إن تشرشل قال مازحاً بهذه المناسبة: «يا مترجمو العالم اتحدوا، ليس لديكم ما تخسرونه سوى جمهوركم»، تهكماً على أشهر مقولة لكارل ماركس: «يا عمال العالم اتحدوا، ليس لديكم ما تخسرونه سوى قيودكم».
لكن التعليق الأكثر بلاغة على الترجمة قد يأتي من جوسي جاسيت، الفيلسوف الإسباني: «إن كلمتين في لغتين لا تكونان أبدًا ترجمة دقيقة بعضهما لبعض. أكثر من ذلك، ومع ذلك، لا يوجد شخصان يقصدان نفس الشيء بنفس الكلمة (مع استثناء محتمل لبعض المصطلحات العلمية). الترجمة، إذن، هي مسعى «طوباوي»، فعل مستحيل لقراءة العقل بشكل مثالي. هذا لا يعني أنه لا ينبغي المحاولة، ولكن أولئك الذين يحاولون يجب أن يكونوا «طوباويين جيدين» يعرفون أنهم لن ينجحوا أبدًا.» ولعلنا هنا نستذكر المقولات الشهيرة للجاحظ عن الترجمة، وشروطه الصارمة في الترجمة، مثل أن المترجم لا يستطيع نقل المعنى الدقيق للنص الأصلي نقلاً أميناً إلا إن كانت معرفته مساوية لمعرفة مؤلف النص الأصلي في ذات الموضوع.
ومن هنا يأتي عنوان الكتاب «الرقص على الحبال» مأخوذ من رثاء جون درايدن في مقدمة ترجمته المشهورة لرسائل أوفيد (شاعر روماني قديم)، إذ كتب: «باختصار، يواجه الناسخ اللفظي العديد من الصعوبات في وقت واحد، بحيث لا يمكنه أبدًا فصل نفسه عن الجميع.. إنه يشبه إلى حد كبير الرقص على الحبال بأرجل مقيدة».