صعب علي أن أكتب ما أود قوله، أن أستحث أصابعي للنقر على الحاسوب بالكلمات التي تليق بـ «ماما شريفة». أنا التي ما كانت يوماً الكتابة عصية عليها. ماما شريفة التي اتخذت من الكتابة ترياقاً تتحدى به سموم الحياة وقاومت به أصعب النكبات والعراقيل. كانت تحيك من كل عثرة حكاية وتمد من الحروف جسوراً تربط ضفتين ما كان يظن أحد أنها ستُربط. استخدمت مقالاتها سلاحاً ناعماً ضد الظلم المجتمعي وأحياناً شمعة في ليل حالك ظن الأغلب أن لا نور فيه. لستُ هنا لأتحدث عن مناقبها وما قدمته سيرتها الزاخرة في الإشراف الاجتماعي وحقوق الإنسان، فالجمعيات الخيرية التي أسستها ودور الأيتام وكل من مدت لهم يداً أولى بالحديث عنها. ولن أتحدث عن مجموعاتها القصصية ولا مقالاتها في الصحف فكتّاب الساحة الثقافية ودور النشر أعلم وأخبر بمكانتها. ولن أتحدث عمَّا قدمته للوطن لأنها لم تكن تحسب ما قدمته، بل تفعل ما تفعل عن حب كمواطنة بارَّة تعشق وطنها.
أكتب مقالتي لأتحدث عن روحها، روحها الإيجابية التي كانت تحاول أن تخلق من كل ضائقة نافذة. أتحدث عنها بصفتي ابنتها، أو كما أحب أن أزعم كوني من الناحية البيولوجية ابنة أخيها، أنا الابنة الثالثة التي لطالما كانت تقول «لو أني أنا اللي جايبتك ما كنتِ طلعتِ تشبهيني هالقد»، والشبه لم يكن شبهاً في ملامح أو صورة. كنت ابنة متبناة لها ولعمي عبدالله زوجها، أخت منيرة ومي ووائل وباسل ومازن حتى بت السفير الرسمي لماما شريفة وبيتهم عند أمي وأبي وأخواتي. كنتُ الممثلة الرسمية لماما شريفة في الدعوات الثقافية إن لم تستطع الحضور بسبب وعكة صحية ومستشارتها الثقافية في المقالات قبل النشر أحياناً وأحياناً بعدها، فتكتب لي «أنا من غير الكتابة ما أعرف أعيش، أحس إذا ما كتبت أذبل». لطالما تسامرنا في الشعر وأحاديث عن الأدب حين أقضي عطلة كل نهاية أسبوع في بيتهم.
شريفة الشملان التي ما كانت تسمع بخبر حمل إحداهن حتى تُخرج سنارة التريكو لتصنع للضيف الجديد ثياباً تليق بحضوره للدنيا. شريفة الشملان التي ما كانت ترضى أن يُحكى على أحد في غيابه وتقوم عن المجلس حتى يخوضوا في حديث غيره. شريفة الشملان التي كان يكسرها الخصام أكثر من مرض القلب وغسيل الكلى التي كانت تخوضه. لم تكن تعتب أو تخاصم وأمضت حياتها كلها تسامحاً. شريفة الشملان البريئة التي رأت من أهوال البشر ما يُندي الجبين ومع ذلك كلما سمعت بشيء شائن استنكرت وتعوَّذت من الشيطان وكأنها لم تر في دنياها الأعاجيب. شريفة الشملان التي تمكَّن المرض من جسدها لكنه فشل أن يلمس روحها. شريفة الشملان التي كانت تتضايق إن أقبل عليها أحد مقطب الحاجبين وترى أن الابتسامة فرض عين. التي كرهت السواد في الثياب والقلوب. شريفة الحساسة التي كانت تعتذر وتتأسف أن تُضيّق على أحد حتى وإن كنّ بناتها. شريفة التي ما فتئت تشكر على أصغر الأمور وأكبرها حتى تلك التي يكون الفعل فيه حقاً من حقوقها. شريفة الصريحة الواضحة التي إن أعطت أغدقت وما بخلت يوماً في عطائها. شريفة الشملان التي علمتني «أشوف الزين في كل شيء».
شريفة الشملان التي رفضت أن الخير يخص والشر يعم وأبت إلا أن تزرع الخير في كل مكان. شريفة الشملان التي امتلكت جناحين لمت الجميع تحتهما حتى بات الكل يدّعيها لنفسه. أمي شريفة لم ترحل، هي في كل خير أراه حولي ويراه فيني الناس.
ماما شريفة نحن لن نبكيك، سنحصد ما زرعتِه ونزرعه ثانية. في أمان الله يا أغلى الناس.
** **
- د. فاطمة الشملان