د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تحملني دائما رائعة شاعرنا الوطني ابن مكة والحجاز «طاهر زمخشري»، حيث آرائكِ الحجيج، وتِبْرِ المشاعر وتُرابها حينما قال:
«أهيم بروحي على الرابية
وعند المطاف وفي المروتين
وأهفو إلى ذكرى غالية
لدى البيت «والخيف» و«الأخشبين»
ويهدر دمعي بآماقيه
فيجري لظاها على الوجنتين»
فهناك في مكة جياد لا تكبو، تعدو فرحًا نحو تلك البقاع الطاهرة حيث بيت الله الحرام المكان الأعظم على وجه الأرض، وهناك يرتدي ضيوف بيت الله رداء خاصًّا، يليق بجلال الموقف، فتخلع عليهم المشاعر المقدسة في مكة المكرمة دفئًا وروحانية، وتتقاسم معهم مشاعر المؤمنين، فتبرم معهم وثيقة الركن الخامس من أركان الإسلام.(ولله على الناس حج البيت...)
تلك الشحنات الشعورية التي تثيرها المشاعر المقدسة في نفوس الحجيج ؛ تتربع ولا تغادرهم إلا حين إتمام المناسك؛ إذ الروح تسمو، والنفس تعلو وتستوي! ويؤوب الحاج وقد» خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
وتتواصل دلالات الحج ومفاهيم النسك حين الانتقال بين فجاج المشاعر؛ فيمتزج يقين الحجاج ليشهدوا منافع لهم، «ويذكروا اسم الله في أيام معدودات».
ومن جبل الرحمة في عرفات إلى التقاط عدة الرجم وعتاده من حصوات مزدلفة، تلك البقعة الحاضنة لمن استعدت نفوسهم لدحر الشيطان والنأي عن وساوسه وغوايته، ومن ثم مستراد «منى»، ذلك المشعر الذي امتلأ بسكنى الحجاج وحراكهم الذي لا يكل، ولكنه حراك مختلف، خطّطَ له ربهم جل في علاه، واحتضنت بلادنا طقوس تنفيذه فكفلت للحجاج بعد الله تيسيره وتمامه.. وهناك في المشاعر يعلو نداء الوحدانية العظيم «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك؛ إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».
وهذا النداء الصفيق المتصل بالله يحمل أهداف الحجاج وما يرجونه من خالقهم، ويبشرهم بالقادم من القبول والمغفرة؛ ففريضة الحج تعني لهم أزمنة وأمكنة ذات نسيج مختلف، وتجربة تأدية المناسك تجربة جلية، تمتد منذ أن روى حجاج بيت الله الحرام دلاءهم من نمير مكة المكرمة، وارتشفوا من زمزمها ما شُرب له، وذكروا اسم الله في أيام معلومات، وتجلت لهم عزة الإسلام والمسلمين تحت ظلال ممدودة، وفوق نمارق مصفوفة!.
ويظل الحج بتعددية مناسكه مرادفًا للانتقال لعبادة الله وتأدية فروضه، يخطف في ذهن الحاج كثيرًا من التفاصيل والصور الكبيرة والمشاهد الموحية ذات الأثر الذي يحدثه إيقاظ الشعور بالمحبة وبث روح التآخي والتعاون بين المسلمين!
ولأن الحج في جملته حراك جسدي فإن خلايا الجسد تستجيب لكل ما يمليه العقل من اليقين بأن الحج يبقى في مضمونه عبادة وسلوكًا، وتبقى بلادنا تستضيف العالم من خلال حجاج بيت الله الحرام، وتبني لهم متكآت التيسير التي لا تشيخ، ونبقى مع حجاج بيت الله وضيوف بلادنا نسيجًا لن يبلى بإذن الله بقيادة رشيدة يقودها خادم الحرمين الشريفين وولي عهده حفظهما الله.