سلمان بن محمد العُمري
لم أكن أتصور وجود بعض الرواسب الجاهلية في عقول بعض الآباء والأمهات من كراهية إنجاب البنات، ولم أكن أتخيل بقاء هذه العادة الجاهلية في عقول هؤلاء.
ففي الوقت الذي ينبغي للإنسان المسلم الاحتفاء بنعمة المولود، ويحسن استقباله، ويرضى بما قسمه الله له؛ نجد بعض موروثات الجاهلية تطل بقرونها مرة أخرى، مما يعد انحطاطاً اجتماعياً مخالفاً لتعاليم الإسلام، وأصحابها يجهلون أو يتجاهلون أن البنات نعمة وهبة من هبات الله.
هناك الكثير من القصص والروايات لا تزال تتداول على ألسنة الرواة، وحكايات يتناقلها الناس عن بعض المآثر والمواقف الحميدة المشرفة لبنات تفوقن بها على الرجال، ومما سطره الرواة، قصة ذكر فيها: «أن رجلاً من البادية تزوج من ابنة عمه وأنجبت له تسعة أولاد ذكور ولكن في الحمل العاشر أنجبت له أنثى وعندما بُشر بالبنت حزن حزناً شديداً وشعر بالإهانة، وقال صارخاً:
يا ليلي الأسود.. يا ليلي الأسود؛ ثم إنه قاطع زوجته وأصبح ينظر إليها نظرة تشاؤم وجحود، وكأنها هي السبب أو هي التي خلقتها، مرت الأيام والسنون وكبر هذا الأب وضعفت قدرته وبين يوم وليلة فقد بصره وأصيب بالعمى وتزوج الأبناء وانشغلوا بحياتهم ونسوا أباهم الضرير، كما أن ابنته تزوجت أيضا، ولكنها لما سمعت ما حدث لأبيها سارعت للذهاب إليه ولما دخلت عليه بدأت تغسل له جسده وتنظف له خيمته وقامت بطهي الطعام له، فأحس براحة لم يشعر بها من قبل ولما اقتربت منه لتعطيه الدواء، أمسكها من يدها وسألها: من أنت يا بنت الكرام؟
فقالت والدموع تنهمر من عينها: أنا ليلك الأسود يا أبي!
فعرف أنها ابنته وانفجر باكياً ورد عليها نادماً ومتأسفاً: سامحيني يا بنيتي ليت الليالي كلها سود، وأنشد يقول:
ليت الليالي كلها سود
دام الهنا بسود الليـالي
لو الزمان بعمري يعود
لأحـبهـا أول وتالي
ما غيرها يبرني ويعود
ينشد عن سواتي وحالي
تسعة رجالٍ كِلهم جحود
تباعدوا عن سؤالي
ما غير ريح المسك والعود
ابنتي بكل يوم قبالي
كانت نظرة الأب هي النظرة التشاؤمية التي لا تزال تلازم البعض، وهي من صفات الجاهلية ولا تزال تعشعش في عقول البعض مبعدة إياهم عن جادة الصواب، ومفقدة إياهم السعادة التي يريدها الله لنا عبر التزامنا بإسلامنا، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ، ويقول سبحانه: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ، والأنثى من هي؟ إنها الأم الغالية، والزوجة الحبيبة، والأخت الشقيقة، والابنة الحنون فلذة الكبد.
وما نسمعه من القصص والحكايات عن مقت البعض وتشاؤمهم من كثرة البنات، وإن كانت استثناءً من القاعدة إلا أنه يعبر عن وجود فئة -وإن قلت- ما زالت لا تعي معنى الإيمان بالله والرضا بقضائه وقدره، والاستسلام لإرادته، والاستيقان بحكمته في خلقه وأمره ومشيئته، ما زالت هذه الفئة النشاز تمارس فوضويتها وتسخطها من قضاء الله وتبرمها من إرادته، وما زالت تصر على إلحاق الأذية والضرر بمن أوصانا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بالإحسان إليهم وحسن رعايتهم وهي المرأة والذرية.
إن هذه الفئة بحاجة إلى استشعار معاني الرحمة والإحسان للغير وممارسة قاعدة «أحب للغير ما تحب لنفسك» والمرأة لا دخل لها في جنس المولود ولا حيلة لها فيه، فهي تحمله في بطنها كرها وتضعه كرها، وهي في هذه اللحظات بحاجة ماسة إلى مزيد من الرعاية والاهتمام والتلطف وتثمين جهدها، لا أن تقابل بالتذمر مما لا علاقة لها به.
فهل نسمح لأنفسنا الأمارة بالسوء أن تقودنا لجاهلية ثانية؟ فمن لنا عند الكبر والهرم والمرض غير زوجاتنا وبناتنا وأبنائنا - بعد الله تعالى- أما الجزاء فهو من الله تعالى وفيه لا فرق بين ذكر وأنثى؛ فالله سبحانه يقول: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ .
إنه لا مجال في هذا للخرافات والخزعبلات؛ فالقرار النهائي بتحديد جنس المولود هو أمر الله تعالى وإرادته، والمؤسف في الأمر أن النساء أنفسهن يسهمن في ذلك فنرى مثلاً الجدة وهي أنثى لا تريد لابنها إلا ولداً ذكراً، يا سبحان الله! أهكذا نعاكس إرادة الله!، ونفرض رأينا في هذا الأمر!، وكم تمزقت أسر، وضاع أطفال من وراء هذه النظرة التشاؤمية اللاواقعية واللامنطقية، والمعاكسة لمبادئ الإيمان.