د.محمد بن عبدالرحمن البشر
النفوس البشرية تختلف في طباعها، من أقصى الغرور، والكبر، والتعالي، إلى التدرج في المحامد من الأخلاق، والطيب من الخلال، حتى يكون الإنسان جديراً بأن يُشار إليه بأنه سمح، ودود، طيب المعشر، كريم النفس، وهناك من يخلط بين هذا وذلك طبقاً لمزاجيته، ونزواته، فقد تجده لطيفاً تارة ثم شرساً تارة أخرى، دون سبب ظاهر، ولا شك أن علماء النفس والاجتماع يعرفون تلك الأنفس، ويجسدونها بمصطلحات علمية.
أقول هذا وأنا أتفكر بعد أن تصفحت بعض الكتب للبحث عن معلومة معينة كنت أبحث عنها، فوجدت من له غرائب الطباع التي لا يمكن فهمها ممن حباه الله العقل والكياسة، وأتفكر في القدرة لدى الإنسان على التحمُّل عند حلول المآسي، أو تراكمها، فهشام بن عبدالملك الأموي، وأبو العباس عبدالله بن محمد السفاح العباسي، لهما طباع قاسية وغيرهما ممن سبق من بني أمية، أو لحق من بني العباس من كان له تلك الطباع، وغيرهم كثير، وفرنانديز وايزابيلا، وكثير من الرومان، والقرطاجيين، واليونانيين، وشعوب البحر، والفراعنة والمناذرة والقساسة وسواهم.
لكن سأقف عند طبعين لثلاثة شعراء أفذاذ، فأبو الطيب المتنبي مع أن الله قد حباه مَلَكة شعرية مميزة، وأورث لنا حِكَمًا تستحق أن تكون نهجاً للحياة، لم يتخلق بكثير منها، فقد كان قاسياً، صلفاً، متكبراً، مغروراً، مزهواً بنفسه، بخيلاً، لا يرى الناس إلاَّ كشعرة في مفرقه كما يقول، حتى قاده غروره إلى حتفه، فقتله رجل اسمه فاتك، بعد أن قال في أسرته شعراً لا يليق، وبعد أن رفض أن يأخذ معه من يحميه، فكانت طباعه سبباً في قتله، وقُتل ابنه محمد بعد ذلك بثلاثة أيام، وسُلب ماله الكثير، الذي ينقله معه أينما حل، فزال هو، وعقبه، وماله، بسبب ما جبل عليه.
والآخر شاعر مميز رقيق بسيط لكن الظروف قست عليه، والدهر كلح في وجهه، فعاش مآسي لم ينؤ بحملها، وهو الشاعر الملقب بابن الرومي، واسمه أبو الحسن علي بن العباس بن جريح، ولد في بغداد عام 221 هجرية، وعاش في العصر العباسي، كان طيباً، حسن المعشر، يبعد عن التصادم والكبر والصراع، فهو خير بلا شر، كما يقال، لكن تعرض أثناء حياته للضربات الموجعة، الواحدة تلو الأخرى، وتوالت عليه المآسي والأحزان، وكان أضعف من أن يتحملها، فقد ورث من والده أملاكاً كثيرة، وضيعًا ومزارع، لكنه كان كريماً تجاوز به كرمه الحد المطلوب حتى أصبح مسرفاً مهدراً للمال، كما أن انغماسه في اللهو، جعله يفقد حسن التدبير، وتعرض لمأساة أخرى وهي تلك المأساة الممتثلة في احتراق ضيعته، كما جاء الجراد والدبا على زرعه فالتهمه، وتم اغتصاب داره ظلماً وعدواناً دون مبرر مقبول، واستسلم للأمر، لأنه بطبعه مسالم، وجاء الموت ليضيف لمآسيه نوعاً آخر، فقد ماتت والدته، ثم والده، ثم أخوه الأكبر، وبعدهم توفيت خالته التي أحبها منذ صباه، وقرر أن يتزوج ففعل، وأنجبت زوجته ثلاثة أبناء، فماتت زوجته وأولاده الثلاثة.
لقد كانت هذه المآسي سبباً في إحداث تغير كبير في شخصية الشاعر السمح الذي لم يكن هجاء، فأنغلق على نفسه وأصبح متشائماً من كل شيء ينتظر السوء في كل لحظة، فاقداً للأمل، مستسلماً للخوف والخزع، وزاد الناس على ما فيه من أحزان بنظرتهم إليه نظرة سخرية، واضطهاد، فكان الناس تنفر منه، ولا تطيق مجالسته، وكأنهم لم يكونوا في مجتمع إسلامي الأولى به أن يكون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له الجسد بالحمى والسهر، فسبحان الله، ولو كان أخلاق الإسلام هي السائد بالعمل لا بالقول، لوجدت العالم الإسلامي حتى هذه اللحظة في مقدمة العالم.
بعد أن رأى فعل الناس به، سن لسانه وأطلقه في هجاء المجتمع، والناس، والعامة، والخاصة، ساخطاً عليهم لأنهم لم يقفوا معه وقت مآسيه، لكن ذلك الهجاء القوي من شاعر فحل مثل ابن الرومي، جعل الوزير أبا الحسين القاسم بن وهب وزير الخليفة العباسي المعتضد يخشى هجاءه، فأرسل له أحد أصحابه يلقب ابن فراش فأطعمه حلوى مسمومة، وهو في في مجلسه، فلما أحس ابن الرومي بالسم يسرى في عروقه، قام من المجلس، فقال له الوزير إلى أين؟ فقال ابن الرومي إلى الموضع الذي بعثتني إليه، أي الموت والقبر، فقال له الوزير، سلم على والدي، قال، ليس طريقي إلى النار، أي أن أباك في النار.
الشاعر الثالث الرائع فهو أمير موحدي وشاعر، وهو أبو الربيع سليمان، كان عالي النفس، رفيع الهمة، لا يتعلق بالخليفة، أو يتمسح بأعتابه على عادة الشعراء من أمثاله، وكان كريم النفس نبيلاً مترفعاً عن صغائر الأمور، متجاوزاً للزلات، يجير عثرات الكرام، ويتجاوز عن زلاتهم، وإذا أهدي إليه كتاب، أو قيل له شعراً، ورأى فيه زلة، أو خطأ، فإنه يتجاوزه، وكأنه لم يقرأه أو يسمعه، بينما يثني على من أهداه دون إبداء الزلل، كان يحب الغزل ووصف الطبيعة، وهذا يتناسب مع نفسه البشرية النبيلة، وخلقه الرفيع، وسار سيرة الكرام حتى وفاته.
وهكذا هي الأقدار، والنفوس، والله في خلقه شؤون، جعلنا الله ممن يعمل الخير ويتلفظ بكل ما يقرب القلوب.