«تبدت لي الكعبة قائمة وسط المسجد فشُدَّ إليها بصري وطفر قلبي ولم يجد عنها منصرفًا، ولقد شعرت لمرآها بهزة تملأ كل وجودي وتحركت قدماي نحوها وكلي الخشوع والرهبة»، كتبها «د. محمد حسين هيكل» «في منزل الوحي «عند رؤية الكعبة» أثناء رحلته للحج عام (1355هـ -1936)، فلا تنقضي رسائل الحج الظاهرة ودروسه عميقة بين البشر؛ فيجتمعون يوم الحج الأكبر بتنوّع ألسنتهم واختلاف ألوانهم في هيئة واحدة على صعيد واحد، حيث جعل الله لعباده أعيادًا ومواسم تُؤلف قلوبهم، وتوحدهم عبر محطات للذكرى وشكر الله على نَعمائه وآلائه، في ميادين الطاعة والعمل الصالح، متكافلة متضامنة، في كتلة واحدة إذا تحركت من وقفة عرفة حتى البيت العتيق الذي جعله الله مباركًا وهدى للعالمين، ثُم الطواف والسعي كأُمة مُتلاقية من مشارق الأرض ومغاربها، في وقت وزمان واحد، برحلة خالصة مُخلصة لوجه خالقهم وفي سبيله، بالحسّ والنفس، والعمل والقول، والذكر والفكر، مُتوشحين برداء وشعار ونداء ودعاء أوحد: «لَبّيكَ اللهمّ لَبيْكَ، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، مُترفعين عن الأحقاد والأضغان، يتناسَون الشحناء والبغضاء، لذلك جعل الله موسم الحج فرصة للإخاء والصفاء، حتى في الكلام والحوار، والتطهر، لتحظى رحلة الحج ومعالمها عبر التاريخ باهتمام المُؤرخين والأُدباء والعُلماء والمُثقفين -مُسلمين ومُستشرقين وغير مُسلمين-، بتوثيق مشاعرهم وخواطرهم، بل ووضع الرحالة منهم خرائط دقيقة لكل مكان زاروه، لتكون نتيجتهم واحدة، أن مكة هي مركز الأرض التي اختار الغربيون خط (جرينتش) في بريطانيا مقياسًا بدلاً من مكة...
لقد أراد هؤلاء العباقرة الرواد أن يودعوا تلك القبلة وشعائرها في ذاكرة الناس، فسطروها بقلوبهم:
سعودياً: كتاب «أشهر رحلات الحج» للعلامة «حمد الجاسر»، و»المختار من الرّحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النَّبوية» لـ»محمد بن حسن الشريف»، و»رحلات الحج في عيون الرحالة وكتابات الأدباء والمؤرخين لعبد الله بن حمد الحقيل.
عربياً:اشتهر كتاب «مرآة الحرمين» للواء إبراهيم رفعت، أمير الحج المصري، عام (1318هـ-1901م)، لتوثيقه الفوتوغرافي الكامل، أعقبه كتاب «الرحلة الحجازية» لمحمد البتنوني، واصفاً فيه رحلة الخديوي عباس حلمي الثاني إلى الحجاز عام 1910م)، لنجد المؤرخ المغربي الشهير «عبد الهادي التازي» متميزاً في كتاب «رحلة الرحلات: مكة في مائة رحلة مغربية، والشاعر الإماراتي «محمد أحمد السويدي» بكتابه « لبيك اللهم لبيك، ليُثري أدباؤنا دنيانا راسمين رحلاتهم للحج، كـ «أحمد حسن الزيات» في مقال «مجلة الرسالة «بعنوان «في أرض الحجاز»، وكتاب «رحلة الحجاز» للأديب «إبراهيم المازني» عام 1930، وكتاب «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف»، عام 1931م للأمير «شكيب أرسلان وكتب مقدمته الشيخ محمد رشيد قائلاً: «وأنا أعلم علم اليقين أن جميع الدول الاستعمارية تمقت قيام المسلمين بهذه الفريضة، وتتعاون على صدهم عنها بما تستطيع من حول وحيلة». وكذلك الشيخ والأديب على الطنطاوي في كتابه «إلى أرض النبوة»، عام 1934، والشيخ الموريتاني «محمد الأمين الشنقيطي» في كتاب «رحلة الحج إلى بيت الله الحرام»، ووثق «عباس محمود العقاد» رحلته عام 1946، في عدة مقالات، أطرفها تجربته في الصعود إلى «غار حراء»، ومثلهُ الأديب أنيس منصور في كتاب «أيام في الأراضي المقدسة».
غربياً: وثق المؤلف والمخرج الأمريكي «مايكل وولف» كتب الرحالة الغربيين عن الحج في كتاب «ألف طريق إلى مكة «One Thousand Roads to Mecca، وغيره من ذوي التأثير في التاريخ والفكر الإنساني، مثل: «محمد أسد ومالكوم إكس»، و»إيفيلين كوبلد» التي حجت عام 1933، كأول مسلمة بريطانية تؤدي الفريضة، ولقى الكتاب رواجا كبيرًا في أوروبا، ومثلها حج عام 1935العلامة المجري المسلم، «عبد الكريم جرمانوس»، مؤلفاً كتابا تحت عنوان «الله أكبر»، وكذلك الرسام الفرنسي «ألفونس أتيين دينيه» أو «ناصر الدين دينيه» الذي حج عام 1928م، وأصدر كتابه «الحج إلى بيت الله الحرام»، حيث رسم ثماني لوحات بديعة عن الأماكن المقدسة، ناقضاً الكُتب الغربية التي شوهت فريضة الحج في نظر الغربيين، وكتاب «الركن الخامس قصة رحلة حج إلى مكة والمدينة» للنحاتة البريطانية المسلمة «سعيدة ميلر خليفة»، التي أسلمت عام 1959 وحجت عام 1970، وكتب مقدمته شيخ الأزهر عبد الحليم محمود.. ولنرى تأثير رحلة الحج في الكاتب الأمريكي المسلم جفري لانج في كتابه: (الصراع من أجل الإيمان: انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام).. بل وكان للمستشرقين والجواسيس رحلات حج مدوَّنة لا يسعنا المجال فيها.
رحلة الرحلات: إنه موعد مكاني ينعقد في وعي المسلم منذ طفولته مع القِبلة؛ امتثالاً لشعائر الله وتعظيماً لبيته المحرّم. وربطه بربه الواحد الأحد بعيداً عن زيْغ البشر وأهوائهم وما ينزعون إليه من تحريف للعقائد وتلاعب بالنُّسُك.. فقد سئل ابن عمر:
ما أكثر الحاجَّ! قَالَ: ما أقلَّهم! ثم أجاب: الركبُ كثير، والحاجُّ قليل. أي أن من يقف على معنى الحج ويحج بقلبه قبل بدنه قليل، قال ذلك عن حجيج زمانه مع قرب عهدهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم وأصحابه-، فماذا عساه يقول عن زماننا؟! وعن دول تُطالب بتدويل الحج وهي لا أمن ولا أمان فيها!!..