سعد بن دخيل الدخيل
ليس من المستغرب أن المؤرِّخين والكتَّاب والمهتمين بالتاريخ عند حديثهم عن سيرة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن وتحديداً عن مجال من مجالات بناء الدولة وتكامل كياناتها أنهم يستهلون كتاباتهم بعبارة: «وقد أخذ هذا المجال أو هذا التوجه الاهتمام الأكبر في خطة المؤسس لبناء الوطن» والحقيقة أن الملك المؤسس يمتلك عبقرية إدارية نادرة تجعل من يعيش في مملكته يؤمن أن كل مجال من مجالات التطور والبناء هو اهتمامه الأول فهو يملك ذهنية عجيبة في المتابعة والتأكد من سير المشاريع وفق ما رسم وخطط لها، وحديثنا اليوم عن الحج ومرافقه وخدماته في عهده الذي امتد من 1343هـ حتى 1373هـ والذي يعد من أهم المراحل التي حظيت فيها مرافق الحج وخدماته باهتمام تاريخي يستحق الدراسة والبحث فقد نتج عن اهتمام جلالته -غفر الله له- عناية وتطورات وإصلاحات منقطعة النظير، بل وأصبحت انطلاقة عظمى في مسيرة تطور الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة. فحين آلت له البلاد وانطاعت، ولاذت به الأرض لتكون تحت حكمه بدأ مسيرته مع الإصلاح والبناء لمرافق الحج وخدماته، فكان بين ملفات متعددة جميعها مهمة ولكن القائد وضع أمن الحج وإدارته على قائمة الأولويات تلتها الصحة والمواصلات والمياه والمرافق وتطوير ما حول الحرم والمشاعر. يقول د. سهيل بن حسن قاضي في بحثه المقدم إلى مؤتمر المملكة العربية السعودية في مائة عام «تطور رعاية الحجاج وخدمتهم في عهد الملك عبدالعزيز» ضمن محور المكانة الدينية للمملكة العربية السعودية: «وكان الملك عبدالعزيز وحكومته يؤمن تماماً أن خدمة الحجاج لا تتم إلا بالوسائل الثلاث: 1- العناية بالأمن الكامل ليكون الحاج آمناً على نفسه وماله. 2- الاهتمام والعناية بصحته. 3- تسهيل وسائل الراحة بأقصى ما يستطاع سواء في ظعن الحجاج أو إقامتهم.» ولقد جاء في الخطاب الأول للملك عبدالعزيز قبل دخوله مكة قوله - رحمه الله: «إني مسافر إلى مكة مهبط الوحي لبسط أحكام الشريعة وتأييدها» (جهود الملك عبدالعزيز في عمارة عين عرفة للدكتور عادل غباشي)، وعلى هذا فمنذ أن ضم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الحجاز بدخوله مكة يوم الخميس 7 جمادى الأولى 1343هـ ثم مبايعته بالملك على الحجاز سنة 1344هـ، كان أول عمل قام به هو إرساء الأمن على أسس قوية متينة، حيث أعلن في جموع الأهالي ورؤساء القبائل والعشائر أنه سيضرب بيد من حديد وبلا رحمة ولا شفقة على كل من تسوِّله نفسه العبث بالأمن أو محاولة تعكير صفوه وركز بصفة خاصة على توفير الأمن والطمأنينة لحجاج بيت الله الحرام في جميع المشاعر والطرقات المؤدية إليها، وأعلن كذلك أنه لن تكون هناك هوادة في حدود الله ولا يقبل فيها شفاعة فمن التزم حدود الله ولم يتعدها فأولئك من الآمنين ومن عصى واعتدى فإنما إثمه على نفسه ولا يلومن إلا نفسه (تطور رعاية الحجاج وخدمتهم في عهد الملك عبدالعزيز)، ويقول الملك عبدالعزيز في كلمة سجّلها التاريخ وكانت بداية عهد مزهر ومستقبل واعد لمكة والمشاعر: «إننا نرحب ونبتهج بقدوم وفود حجاج بيت الله الحرام من المسلمين كافة في موسم هذه السنة 1343هـ ونتكفل بحول الله بتأمين راحتهم والمحافظة على جميع حقوقهم وتسهيل أمر سفرهم إلى مكة المكرمة» (شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز لخير الدين الزركلي)، ويقول إيجيرو ناكانو في كتابه الرحلة اليابانية إلى الجزيرة العربية: «وكانت المنطقة ( يعني الحجاز والطرق المؤدية لها) في خطر، ولكن بعد قدوم الملك عبدالعزيز آل سعود استتب الأمن، وتمكن من السيطرة على المنطقة جيداً وهكذا أصبح الطريق أكثر أمناً والناس يأتون للحج لم يعودوا يخافون شيئاً» ومن التدابير التي اتخذها الملك عبدالعزيز في إرساء الأمن وتوفيره في الحجاز: سن الأنظمة والتشريعات وإيجاد جهاز للشرطة منظم في تشكيلاته واختصاصات رجاله ووظائفهم وكذلك تنفيذ مشروع توطين البادية وأحكم رابطة القبيلة بشيوخها واعتبر أفرادها جميعاً جند له وجعل القبيلة كلها متضامنة متكافلة في المسؤولية عن وقوع أية جريمة فيها أو في جوارها، ومن ذلك منع حمل السلاح في مكة والمشاعر وعلى كل قادم براً أو بحراً أن يسلم ما معه من سلاح لمراكز القدوم ويستلمها عند عودته/ كما أنشأ البرقية وهذا المشروع يعتبر الأول من نوعه في جزيرة العرب. وقد أوضح محمد سرور الصبان مدير المالية نجاح موسم عام 1366هـ إذ لم يسجّل فيه أية حوادث سطو أو سرقة أو ما شابه ذلك. ومع إرساء الأمن فقد تزامن معه اعتناء الملك عبدالعزيز بالطرق سواء المتجهة إلى مكة أو التي داخل مكة والمشاعر، فقد رأى ما كان يقاسيه الحجاج من الغبار والضيق في شوارع مكة فأمر بإصلاحها وبدأ بشارع المسعى فأمر بترصيفه فوضع نائبه الأمير فيصل حجر الأساس لهذا المشروع يوم السبت 20 جمادى الثانية 1345هـ، كما أمر المؤسس - طيب الله ثراه - بإصلاح مظلة شارع المسعى التي كانت قد أقيمت عليهام 1341هـ لدرء أشعة وحرارة الشمس عن الساعين، كما أمر في عام 1355هـ بإعادة رصف شارع المسعى بأحجار منتظمة مرصوفة فنياً مع عمل الميول اللازمة لانحدار المياه تيسيراً لحركة وفود الرحمن، كما أصلحت مظلة المسعى للمرة الثانية وجددت بأسلوب فني محكم في سنة 1366هـ . وأما الطرق المؤدية إلى مكة فقد أمر بمباشرة العمال في إصلاح وتعبيد الطرق الجديدة التي للسيارات في طريق مكة الوادي بحرة الطريق العام جدة ، واستمرت عمليات إصلاح الطريق بين مكة وجدة حيث ذكر شاهد عيان حج سنة 1348هـ أن هذا الطريق أصبح أفضل بكثير في حج هذا العام عما كان عليه عندما حج سنة 1343هـ على الرغم من أنه لم يرصف بعد وجرى إصلاحه أيضاً سنة 1352هـ (يوميات رحلة في الحجاز (1348هـ- 1930م ) لغلام رسول مهر)، وسعياً من الملك عبدالعزيز لتيسير الحركة في شوارع مكة فقد وضع برنامجاً لتوسيع تلك الشوارع وبخاصة المتصلة منها بالمسجد الحرام ولذلك صدرت أوامره بهدم الدكك والنواتئ التي تشغل حيزاً يقدر بالأمتار وإزالة كل يعيق حركة السير، فقد أصدر أمره في سنة 1346هـ بإصلاح طريق وعر يمر به عدد كبير من حجاج بيت الله الحرام في ذهابهم وإيابهم من جبل عرفات (جريدة أم القرى عدد 155 8 جمادى الثانية 1346هـ) كما أرسل جلالته رواداً لكشف مكان صالح لفتح طريق واسع بين مكة ومنى وعرفات بالإضافة للطريق الحالي كما صدرت الأوامر منه رحمه الله بإنارة الطريق بين مكة ومنى بالكهرباء سنة 1354هـ ، كما أمر بتشكيل هيئة تتولى القيام بشؤون المواصلات وإصلاحها وانتخبت الهيئة بعض أفرادها برحلات يتم فيها الكشف عن حالة الطرق لعمل الإصلاح المطلوب من تعبيد وسفلتة ورفع تقارير عن ذلك. وشملت صحة الحجاج والمعتمرين اهتمام حكومة الملك المؤسس وعنايته فكان أول عمل قام به - رحمه الله - أمره باتخاذ التدابير الصحية اللازمة لوقاية الحجاج من الأمراض الوبائية، ففتح العيادات الطبية لمعالجة الفقراء مجاناً ويتم في هذه العيادات مراقبة الأمور الصحية وقد أسس إدارة صحية في مكة والمشاعر وشكلها من مدير وسبعة أطباء، كما أسس نقاط إسعاف في منى ومزدلفة وعرفات تتكون من ست خيم وثلاثة أزيار ماء وما يلزم من أدوية وخدمات كافية، وفي خطوة استباقية فقد أمر الملك المؤسس بإقامة المحاجر الصحية لحفظ سلامة مكة والمشاعر والبلاد بأكملها فبدأ في 1347هـ بمحجر صحي في جزيرة أبي سعيد بجدة وفي السنة التي بعدها أنشأ محجراًصحياً في جزيرة العباسية الواقعة أمام مرفأ ينبع، ولم تقتصر الجهود في إنشاء مراكز صحية في مكة والمشاعر، بل امتدت إلى الطرق ما بين مكة وجدة وما بين مكة والمدينة المنورة في مراكز تقدم المعونة والإسعافات للحجاج الذي يعتريهم في الطريق إلى مكة المرض والتعب، يقول الحاج على الدّجاني في مقال له ففي مجلة المنتدى تحت عنوان مشاهدات في الحج ذكر وعبر: «ومظاهر النهضة تتمثل في نواح متعددة فمن الناحية الصحية توجد إدارة للصحة العامة وتعطى الأدوية مجاناً ومستشفى الحكومة في مكة مجهز بأحدث الآلات والأدوات وفيه أمكنة كثيرة لعدد كبير من المرضى ويبلغ الاستعداد الصحي أقصاه في أيام الحج عندما يكثر عدد الوافدين على مكة». ولم يغفل المؤسس مسألة توفير المياه في مكة والمشاعر فدعم لجنة عين زبيدة، وحين تعرضت بعض قنوات زبيدة لسيل عظيم وتهدم بعضها أمر اللجنة بتعمير العين وقنواتها وكان جلالته يرحمه الله يتردد على الموقع بنفسه لمتابعة سير العمل (الخلاصة المفيدة لأحوال عين زبيدة لعبدالقادر ملا قلندر)، وفي سنة 1347هـ تم إنشاء خزان كبير في المسفلة لسقيا الحجاج وزوار البيت الحرام وكانت حوائط الخزان مطلية بالرخام الملون، كما تم إيصال الماء إلى مكة من خلال مواسير زهر قطرها 12 بوصة من ماء عين في الزيماء على طريق مكة الطائف وتبعد عن مكة 45 كم. ولم يكن اهتمام الملك عبدالعزيز بتأمين وتوفير المياه يقتصر على مكة والمشاعر وجدة، بل امتد إلى الطرق حرصاً منه على راحة المسافرين والوافدين من حجاج بيت الله الحرام فأمر بإتشاء مظلة بالقرب من مخفر الشرطة الواقع بجانب مقهى المعلم على طريق مكة جدة وجلب الماء إليها بالمواسير سنة 1348هـ. كما حظيت عين عرفة باهتمام ومتابعة جلالة المؤسس، فهي تشكل مورداً مهماً لسقيا سكان مكة وحجاج بيت الله الحرام فأمر بصيانتها وعمارتها وكان دافعه في ذلك عوامل عديدة منها حبه للخير وكسب الأجر والثواب من الله وتحمّله مسؤولية العناية بسكان بلد الله الحرام وحجاجه الكرام.
كما عمل الملك عبدالعزيز على دراسة مستقبل مكة والمشاعر وسعى لتنظيمها سكنياً وتخطيطها لكي تصبح قادرة على مواجهة التغيّرات والتوسعات المرتقبة فقد كون لجنة وعهد إلى اللجنة بيع الأراضي الحكومية بضواحي مكة بعد تخطيطها وتقسيمها إلى قطع وتوفير الخدمات فيها كالمساجد ومراكز الصحة والشرطة وبهذه المشاريع التنموية انطلقت مكة وأصبحت هدفاً للشركات العالمية وفروع البنوك المختلفة وازدادت الحركة التجارية والعمرانية وانتعش اقتصادها وأصبح رافداً مهماً ومع هذا فكان الملك عبدالعزيز يضع نفسه مكان الحاج ويتقمص حاجته لذا كان غير راض عن الرسوم التي تفرض على الحجاج ويصر على تخفيضها؛ فقد أمر بداية الأمر رئيس مجلس الوكلاء بإلغاء رسم الأضحية الذي كان قد وضع على الأغنام التي تُذبح في منى عام 1358هـ وفي السنة التي تلتها قرَّر تخفيض الربع من الرسوم والعوائد والأجور وأدخل رسوم الصحة البحرية وأجور الحجر الصحي داخلاً ضمن التخفيض، وفي عام 1368هـ أبلغ الملك عبدالعزيز الحكومات أنه قرر خفض جميع العوائد والرسوم (عبدالعزيز والحج لمحمد السلاح)، إلا أن هاجس راحة الحجاج لم يهدأ وكان حلمه الأكبر إلغاء الرسوم، ففي عام 1371هـ أصدر أمره الملكي القاضي بقراره الشجاع وخطوته الجريئة برفع رسوم الحج عن الحجاج وإلغائها، فتبلغ وزير ماليته الشيخ عبدالله بن السليمان هذا الأمر برقياً عن طريق الشيخ يوسف ياسين فأذهله ما تلقى وجاء مسرعاً إلى جلالته يقول له: يا طويل العمر ثلاثون مليون ريال من أين أعوّضها للميزانية؟ فأجابه -رحمه الله-: دبر نفسك (المسجد الحرام في قلب الملك عبدالعزيز لشريف عبدالله العبدلي).
ومما جاء في بعض الصحف المحلية والعربية من وصف لما قدمه المؤسس -رحمه الله - في سبيل الحج والحجاج فهذه بعض العناوين من صحيفة الفتح: أشرف جلالة الملك ابن السعود بنفسه على أبحاث المهندسين في إصلاحات الحرم المكي (ربيع الأول 1346 العدد 62) ، (ذكر محمد الباكر تاجر اللؤلؤ في البحرين أن حج هذا العام شهد 220 ألف حاج وحاجة وأفادت المظلات الكثيرة التي أقامتها حكومة الحجاز فائدة عظيمة (محرم 1347هـ العدد 101)، تحدث جلالة الملك عبدالعزيز إلى مندوب المقطم عن حج هذا العام وأنه تم في أمن وأمان وفي ظروف صحية جيدة وخدمات كبيرة (27 محرم 1348هـ العدد 154)، أصدر الملك عبدالعزيز أوامره بأن يعقد في شهر المحرم من كل عام مؤتمر لوجهاء وأهل الرأي بالحجاز للبحث في أمور الحجاز (2 صفر 1350هـ العدد 255)، تحدثت الحاجة المصرية عن اهتمام الحكومة الحجازية وعنايتها بالحالة الصحية كما تحدثت عن استتباب الأمن في جميع أنحاء الحجاز (11 صفر 1353هـ العدد 396)، برقية من السيدة لبيبة أحمد تحدثت عن تمتع الحجاج بالصحة والراحة والنظام بفضل الله ثم همة جلالة ملك الحجاز (18 ذو الحجة 1354هـ العدد 488)، وفي صحيفة الهدي النبوي المصرية تحت عنوان «مبرة لعاهل الجزيرة.. إلغاء رسوم الحج» (جدة في 10- 1948م علمت وكالة الأنباء العربية من مصادر وثيقة الاطلاع أن جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود وطد العزم على إلغاء رسوم الحج وجعل الحج غير خاضع لأية رسوم).
على هذا النهج بدأت المملكة العربية السعودية في الاهتمام بمكة والمشاعر المقدسة ورعاية شؤون الحج والحجاج، أسس دعائمها جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن وما زالت هذه الخدمات شامخة وكل عام يزداد شموخها وبريقها نمواً وتطوراً، ولكونها خدمات تقدّم لضيوف الرحمن، فقد أنعم الله على هذه البلاد وكافأها بالأمن والأمان وأنعم عليها أيضاً بقيادة راسخة مثابرة طموحة تنشد النماء وتبذل العطاء وتخطط لينعم من يعيش على هذه الأرض المباركة بحياة كريمة هانئة، فاللَّهم أعز وريث المجد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وأيَّد أمير الطموح والإصرار والشغف ولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، وأدم على هذا الوطن أمنه وأمانه والخير والرخاء.