عمر إبراهيم الرشيد
صنف الشعب الآيسلندي أكثر شعوب العالم قراءة، وما العجب وهي من أكثر الدول هدوءاً وأقل بعداً عن صراعات هذا العالم المجنون. قبل أيام أقرت هذه الدولة الصغيرة (مساحتها 103.000 كم فقط) نظام عملها بحيث تكتفي بأربعة أيام عمل في الأسبوع، وبعد قياس مؤشرات الأداء تبيَّن زيادة وجودة الإنتاج كذلك، فالعبرة بالكيف لا الكم، وأين من يحسن توظيف هذه الفكرة فالكل يعرفها لكن العبرة في جرأة التطبيق وحسن الإدارة. وحين ضربت الأزمة المالية معظم دول العالم قبل سنوات، كانت آيسلندا إحدى أكثرها تضرراً، ولكن بعدها عن الصراعات وتوفرها على نظام تعليمي ناجح وشعب واع (320.000 نسمة فقط) في رأيي أعطاها مرونة أكثر للتعامل مع تلك الأزمة بعد أن أشهرت إفلاسها، فكان أن عزَّزت قطاعي الأسماك والزراعة وهما عماد اقتصادها حتى القرن العشرين، حيث وقَّعت على اتفاقية التجارة الحرة عام 1994 مع أوروبا فدخل التنوّع اقتصادها بما في ذلك الخدمات المالية. ولقد صنف هذا البلد الواقع على حدود القطب الشمالي في المرتبة 14عالمياً في التنمية البشرية، ويمتلك أكثر صحافة حرة في العالم. هل هذا كل شيء عن هذه الدولة الهادئة؟ في الحقيقة هناك ما هو أكثر، فآيسلاندا تعتبر رابع بلد منتج في العالم حسب الفرد، ومن أكثر الدول تقدماً وغنى على مستوى العالم، ورغم ذلك تعد ضرائبها منخفضة مقارنة بدول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.
وحتى لا يكون الحديث مجرد سرد لمعلومات قد لا تخفى على كثير منكم، القراءة بين السطور واستنباط الدروس هو المقصود، فقد ذكرت نظام عمل الأيام الأربعة في هذه الدولة الوادعة ومع ذلك كان الإنتاج فوق المتوقع. ومحدثكم يعمل في القطاع الخاص (من 7.30 صباحاً حتى 6.30 مساءً)، وأغلب شركات القطاع الخاص وقت العمل فيها طويل جداً كذلك، إنما لا يخفى عليكم أنه بمجرد انقضاء فترة الظهر يبدأ الإرهاق والسأم بالتسلّل إلى العاملين، هذا إذا افترضنا أن الموظف والعامل يعمل بوتيرة عمل متواصلة، لكننا نعلم أن معظمهم لا بد وأن يتوقف لإنهاء عمل خاص به أو إجراء مكالمة وما شابه ذلك، وهذا في كبرى شركات العالم وليس محصوراً في بلد دون غيره. والسؤال إلى وزارة الموارد البشرية: هل لديها النيَّة أو التفكير في سن نظام يلزم الشركات أياً كان نشاطها بمراعاة هذا الجانب وخفض ساعات العمل تشجيعاً لأبناء البلد، بل وتعزيزاً لجودة الإنتاج والحياة كذلك، وهي من أهداف الرؤية كما نعلم.
لا يُقاس تأثير الدول بمساحاتها أو بتعداد سكانها حتماً، وإنما بوضوح الرؤية والأهداف، ومن ثم حسن استغلال الموارد المتاحة أياً كانت، وأهمها المورد البشري، فالإنسان هو المكون الأساس للمجتمعات والدول. ألم أقل بأن الآيسلنديين أكثر الشعوب حباً للقراءة، فليست هذه الميزة ترفاً بطبيعة الحال، فالمعرفة هي السلاح الأول للتغلّب على تقلّبات الزمن وعواديه بعد توفيق العزيز الحكيم، إلى اللقاء.