د. جمال الراوي
يُصادفني -أحياناً- قطٌّ أو كلبٌ مكسورة ساقه، يمشي مشية عرجاء، بالكاد يستطيع التنقل على قوائمه الثلاثة المتبقية، فيثير هذا المنظر اهتمامي كوني جراح عظام، فأقف لحظات أراقب المشهد، وأرثي لحال هذا الحيوان الذي فقد القدرة على متابعة مسيرته بالبحث في خشاش الأرض عن طعامه، وأعتقد بأنّه لا يعيش طويلاً لأنه فقد القدرة على القفز والجري، وهما من متطلبات البحث الدائم عن رزقه فوق الأرض... وما يثيرني في هذا المنظر، الجزء المكسور من الساق، المتدلية والمتأرجحة مع حركة الحيوان، والذي يحتاج للتثبيت لفترة من الزمن، حتى ينجبر الكسر، ولكنْ أنّى لهذا الحيوان الشخص الذي يقدم له المساعدة!
وقد تصادف أنّ كلبة أنجبت عدّة جِرَاء، إحدى ساقيها مكسورة، كانت تعيش بجوار بيت أحد الأصدقاء، لم تكن تستطيع السعي لجلب الغذاء لها، حتى يُدرّ الحليب من ضرعها، وحتى تُرضِع صغارها... وقد أخبرنا أحد الأصدقاء الأطباء البيطريين بحالها، فجاء بأدواته، يبغي تخديرها، وتجبير كسرها، وانتظر ساعاتٍ طويلة، فلم تحضر، ويبدو أنّها ذهبت مع جرائها إلى مكانٍ آخر، أو أنّها ماتت، ولم نعرف مصيرها!
من المتعارف عليه -عند البدو- أنّ كسور البعير لا تنجبر، ما إنْ تنكسر ساقه حتى يربض في الأرض، فلا يستطيع الوقوف أبداً، فيضطرون لذبحه والاستفادة من لحمه، وإذا قاموا بتجبير كسره، فإنّ انجبارها صعب، يستغرق وقتاً طويلاً، وهذا حال الكسور عند الحصان والحمار، لأنّ نقي العظم فيها ذو كمية قليلة لا تساعد على الانجبار. على أنّ الحمار والحصان يستطيعان المشي على قوائهما الثلاثة، وهذا ما لا يستطيع عليه البعير، لأنّه يمشي بطريقة فريدة تختلف عن بقية الحيوانات، إذ يمشي بالتناوب بين قوائمه الاثنتين من كلّ جهة يمنى ويسرى، قائمتاه اليمناويتان تتحركان مع بعضهما، واليسراويتان تبقيان ساكنتين وهكذا دواليك، لذا فإنّ مشيته متمايلة، ولذلك سمي سفينة الصحراء، فإذا انكسرت إحدى ساقيه من الجهة اليمنى، فإنّ الأخرى لا تقوى على حمله!
ومن المتعارف عليه أنّ كسور الكهول صعبة، وتكون عادة الإنذار الأخير ما قبل الموت، خاصة كسور عنق الفخذ، وقد روى لي أحد الزملاء عن جدٍ له، سقط عن الحمار، فكًسر لديه عنق الفخذ، فجلس في البيت، ولم يمشِ بعدها، ولم تمضِ أسابيع حتى فارق الحياة، لذا كان الناس يسمون هذا الكسر «كسر الموت»، بينما أصبحت معالجته -في أيامنا هذه- ميسرة، تعطي نتائج جيدة، يستطيع المريض المشي والقيام بشؤونه، وإنْ بصورة أقل! ويجب الإشارة إلى أن هشاشة العظام، هي السبب في حدوث هذه الكسور عند كبار السن.
وهناك حالة نفسية تترافق مع الكسور عند كلّ الأعمار، ألا وهي الخوف والحذر الشديد، فيصبح المريض حريصاً على تجنب أيّة حركة غير منضبطة، فتأخذ إعادة تأهيله فترة طويلة، وقد لا تعود! خاصة عند المسنين، لأنه يزداد لديهم الحذر والشك والخوف، وقد ورد في أوائل سورة مريم، علامات الشيخوخة الخمسة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} (مريم:4-5)، وهي: (وهن العظام؛ أيْ: تصبح رقيقة وهشة وسريعة الكسر، وابيضاض الشعر الذي يُسمى بالشيب، والخوف وكثرة الشكوى وازدياد الآلام، ويسمى طبيّاً Fibromyalgia، وهو مرض يترافق مع آلام معممة مع ضعف عام والميل للنوم، ضعف الخصوبة، مع تراجع في القدرة الجنسية، والخامسة والأخيرة هي الكِبر وشيخوخة الأعضاء وتراجع وظائفها).
ويبقى الأهم كسور الخواطر، وهي من الحالات التي يصعب علاجها، وقد ورد في معجم المعاني: (جَبَر خاطرَه؛ أيْ: طيَّب خاطرَه، أو أجاب طلبَه، أو عزّاه وواساه في مصيبةٍ حلَّت به، أو أزال انكساره وأرضاه)، ويقال: (كسَر خاطره؛ أيْ؛ خيَّب أمله)، ويُقال: (مكسور الخاطر؛ أيْ: حزين أو ذليل)، والخواطر تنكسر وتميل حينما لا تلاقي من يواسي القلوب المهمومة، ويدفع الظلم الذي يقع عليها.
عندما ينكسر خاطرك، ولم تجدْ إلّا العابثين والشامتين والمتفرجين والغافلين، فعليك أنْ تعلم بأنّ الأيام كفيلة بانجبارها، وانسَ هؤلاء الذين لم يساعدوك على انجبارها!