اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
وتأسيساً على ما سبق فإن إقالة العثرة وغفران الزلة وتجاوز الهفوة وستر العورة من الأمور التي حث عليها الدين، ودعت إليها الفطرة السوية واقتضتها المعاملات الإنسانية، مما جعل من التغافل إزاء ذلك مطلباً دينياً ودنيوياً على درجة من الأهمية لما يترتب عليه من الصبر والصفح والتسامح وكل ما من شأنه تغليب المحاسن على المساوئ، وإحلال التآلف والصفاء محل الكراهية والجفاء، وخير الناس من كف لسانه إلا عن حق ينصره أو باطل ينكره، وقد الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان 63).
ومن يتأدب بآداب التغافل يوطن نفسه على غض الطرف عن الهفوات والأخطاء، وعدم التدقيق فيما تنطوي عليه من خفايا يؤدي التدقيق فيها إلى الخروج عن أدب التغافل والانحراف إلى ظنون وتفسيرات تتعارض مع مقاصد التغافل النبيلة وأهدافه الجليلة التي تستدعي من المتغافل أن يحفظ لسانه عن اللغو من القول ويصم أذنيه عن سماع الباطل، ويغض طرفه عن القبيح حتى لا يتسع الفتق ويصعب الرتق ويتحول المظلوم إلى ظالم بسبب الاشتراك في الردى والابتعاد عن الهدى وقد قال علي بن أبي طالب: من لم يتغافل تنغصت عيشته، وقد قال الشاعر:
وأسكت عن أشياء لو شئت قلتها
وليس علينا في المقال أمير
وترفع المرء عما يعيبه، وابتعاده عما يريبه يدل على ما يتمتع به من كرم النفس وسمو الطبع وبعد النظر وما يتصف به من العفاف والحياء، وهنا يكمن التغافل، فالمتغافل لا يتسع سمعه لما لا يليق ولا يمتد نظره إلى ما يؤذي، مقتدياً بالأنبياء والمرسلين والأتقياء والصالحين، حيث كشفت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية عن تغافلهم في مواطن كثيرة فالرسول -صلى الله عليه وسلم- ضرب أروع الأمثلة في تغافله مع إحدى زوجاته عندما عرفها ببعض ما قالت وأعرض عن بعضه كرماً وحلماً، كماورد في قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (التحريم الآية 3).
ومن يتمعن في سيرة المصطفى- عليه الصلاة والسلام- الذي تستمد منه القدوة وإليه يعود حسن الأسوة يتضح له سلوك التغافل الذي لا تخطئه العين في أمور دنيوية يتسبب فيها نقص وتقصير البشر بهدف تقويم الاعوجاج وضبط انحراف المزاج من أجل ضمان حسن المعاملة وطيب المعاشرة وتجنب الخلاف والاختلاف، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وقال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا».
وتغافل يوسف عليه السلام عما حصل من إخوته يعد من أعظم مواطن التغافل نظراً لما يستند عليه هذا التغافل من صفات وآداب الأنبياء التي جمعت بين صلة الرحم والحكمة والصبر والحلم والعفو وغيرها من مكارم الأخلاق التي تجعل المتصف بها يذهب بعيداً في كرم النفس وبعد النظر والتسامي فوق الإساءات والترفع عن نقيصة الانتقام، كما يظهر في تغافل يوسف عن تطاول إخوته في حقه وذلك في قوله تعالى: قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (يوسف الآية 77).
والتغافل من سجايا العظماء والسادة، وتعتمد قيمته على قيمة الشخص المتغافل والحالة المطلوب التغافل عنها، وكلما كان المتغافل ذا مكانة عالية زادت قيمة التغاضي في تناسب طردي تبعاً لتطور الموقف ونوعية وحجم التقصير أوالنقص الذي يراد التغافل عنه، انطلاقا من أن التغافل فضيلة لا يفهمها ولا يقوم بها إلا أصحاب العقول الكبيرة والنفوس الكريمة والهمم العالية وأهل المروءة، ومن الأمثلة على ذلك أن أحدهم حصل له ما يغضبه من ابن السماك فقال له: الميعاد بيني وبينك غداً نتعاقب، فرد عليه ابن السماك بأبلغ جواب حيث قال: بل بيني وبينك غدا لنتغافر، وأسمع أحدهم أبا الدرداء كلاماً غير جيد فقال: يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعا ، فإنا لا نكافئ من عصا الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه. والسيد في أهله وعمله وقومه هو الذي ينطبق عليه قول الشاعر:
ليس الغبي بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي
ونظراً لما جبل عليه البشر من أخطاء فإن التغافل من شيم الكرام والترفع عن الهفوات والزلات من صفات أولي النهى والأخلاق الحسنة الذين ينظرون إلى الأمور من منظور واقعي يعود عليهم وعلى غيرهم بالطمأنينة والراحة النفسية، بعيداً عن تصيد الأخطاء واقتناص العثرات التي جبل عليها البشر، وأي حكم عليهم من خلالها لا يخلو من الإجحاف وقلة الإنصاف، وقد قال عمرو المكي: من المروءة التغافل عن زلل الإخوان.
وأصحاب العقول الراجحة والضمائر الناصحة والأعمال الصالحة عادة ما يتعاملون بأدب التغافل ويضبطون ميزانه على نحو يحفظ احترام وهيبة المتغافل في الوقت الذي يستفيد منه المتغافل عنه حيث يتعلم درساً من الموقف مع إتاحة الفرصة له لمراجعة نفسه وتهذيبها، وقد قال عثمان بن زائدة: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل، وقال أحمد بن حنبل: بل العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل.
والتغافل يمنع من التمادي مع أخطاء الآخرين، ويوصد الباب في وجه تأثيراتها وانعكاساتها السلبية، وما يترتب عليها من منغصات وخلافات، كما أنه يقلل من تأثير مضايقات وضغوط الحياة ويضعها في حدها الأدنى، تمهيداً لتجاوزها دون أن يكون ذلك على حساب معالجة المشكلات وإيجاد الحلول المناسبة لها.
وإذا كان المتغافل يتغافل عن إساءة هو المقصود بها فكيف بأعداء المروءة جواسيس العيوب الذين يتتبعون عورات الناس وينشرون فضائحهم في وسائل التواصل الاجتماعي، تدخلاً فيما لا يعنيهم وتطفلاً على غيرهم، دون أن يكون لهم رادع من دين أو ضمير أوحياء أو خوف، والرسول- صلى الله عليه وسلم- قال: «من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته»