الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يؤكد القرآن الكريم أن الرحمة من أبرز مقاصد الدعوة الإسلامية، وأنها من أبرز ملامح شخصية المسلم وهي جوهر الرسالة الإسلامية، ومن صفات الله سبحانه وتعالى: «الرحمن الرحيم»، ورسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لم تفارقه «الرحمة» في لحظة من اللحظات؛ حيث كانت طبيعته وفطرته حتى مع المشركين، وعلى الرغم من ذلك نجد الغلظة والقسوة في تعامل البعض مع أبنائهم وزوجاتهم، والمسؤولين مع مرؤوسيهم، والعاملين معهم.
«الجزيرة» ناقشت اثنين من المتخصصين في العلوم الشرعية حول كيفية ترسيخ المنهج الإسلامي النبيل «الرحمة» في المجتمع، وكانت رؤاهم على النحو التالي:
منازل الرحمة
يقول الدكتور سليمان بن محمد النجران أستاذ أصول الفقه بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم: الرحمة أصل الشرع كله؛ فكل حكم شرعي -عبادة أو معاملة- هو رحمة بالخلق أجمعين، برهم وفاجرهم؛ لأن الله -عز وجل- وصف بعثته عليه الصلاة والسلام كلها بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، وهكذا يتمثل أهل الإسلام هذه الرحمة في حركاتهم وتصرفاتهم وأعمالهم. إلا أن للرحمة منازل تبرز وتظهر بها: مع الضعيف، والصغير، وصاحب الحاجة، والمريض، والكبير، والحيوان، كما قال عليه الصلاة والسلام: «اللهم إني أُحَرِّج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة» حديث حسن، رواه النسائي وغيره.
والرحمة تمتد لتشمل كل المواقف والميادين المتنوعة؛ فهي قيمة أصلية متجذرة صلبة في حياة أهل الإسلام كلها؛ ففي التربية والتعليم يلف مظهر الرحمة، ويحيط بكل تصرفات المعلم تجاه المتعلم، وعلاقة الطبيب بالمريض محاطة بالرحمة، وتصرفات المسؤولين في الإدارات والمصالح الحكومية مع موظفيهم ومراجعيهم أقوى قيمة تربطهم: التراحم، والتعاون على البر والتقوى.
أما الأسرة فالتراحم فيها أصل: يقيم أواصرهم، ويزين حياتهم، ويؤلف قلوبهم، ويفرح نفوسهم، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]؛ فالزوجان عمادهما الرحمة والمودة، والأب بكل عطاء أو منع قوامه الرحمة؛ فالرحمة تنتشر في البيت والأسرة؛ لتنعكس مودة ورأفة بين أفراد الأسرة كلهم.
من لا يرحمْ الناس لا يُرحمُ
وتبين الدكتورة هدى بنت دليجان الدليجان أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فيصل بالأحساء أن الرحمة صفة الرحمن الرحيم جل جلاله؛ فهو رحمن الدنيا والآخرة والرحيم بالمؤمنين تعالت رحمته عن الأوصاف والأمثال؛ فالرحمة هي بريد القلوب، ولغة العيون، وذخيرة الإيمان، ونبض السعادة، وهي الوجه الطلق الذي نلتقي به مع كل من نقابله صباحاً ومساء فنبتسم إليه تودداً، وعندما نحاوره نلين له القول، وعندما نجده ضعيفاً نسنده، وحينما تفجعه الأقدار نواسيه صبراً واحتساباً، وفي الصحيحين ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)).
وتسترسل الدكتورة هدى الدليجان قائلة: هي كلمات نبيلة ومشاعر أصيلة وفيوض الكمال بين بني الإنسان تقرؤها في همسات الزوجين وتمتمة الوالدين وضحكات الأصدقاء ودموع المحبين، وهي رسول السلام قبل الكلام نبحث عنها صغاراً وكباراً ذكوراً وإناثاً بغض النظر عن الدين واللغة واللون؛ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159]؛ فرسول الرحمة صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة من رب العالمين وهو السهل الرحيم مع أحبابه وأصحابه وأتباعه صلى الله عليه وسلم، بل عمت رحمته الإنسان والحيوان والنبات، حتى نزل للجذع عند أنين الفراق فاحتضنه رحمة وسلاماً للعالمين، وكل رحمة في هذه الدنيا هي من شيم الكرام وعنوان الأخلاق؛ فالرحمة هي من الرحم، وعاء لصهر الاختلافات المجتمعية والنزاعات الشخصية والعروج في معارج السعادات الأبدية والراحة النفسية والتصالح مع الذات والقفز فوق الأنا، لتعم الأجواء بين الناس سحب الأخوة والمحبة والسلام، ونبذ العنف والتطرف والحقد والأنانية.