د.محمد بن عبدالرحمن البشر
ثلاثة مواسم، فضيلة كريمة، متتابعة، يغتنمها جلَّ المسلمين للاستثمار بعيد المدى، لأنه استثمار يستفيد منه المرء في دنياه وأخراه، وكلٌ إلى الزوال وستبقى الغنيمة الحقة، هي ما جناه المرء في دنياه لأخراه، لأنه كنز مستديم لا ينضب، وزاد مسافر سفراً طويلاً مديداً، وما أحوجنا إلى الزاد في يوم المعاد، وما بعده، فهنيئ لمن غنم، وجمع من الزاد ما يرفع به درجاته، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلب سليم.
عشر ذي الحجة مضى منها ما مضى، وبقي ما بقي، وكل يوم يجتهد فيه المرء في هذه الأيام الفضيلة يكسب بها مكاسب وفيرة، وقد ورد ما يذكر أنها المقصودة بالليالي العشر في صورة الفجر، في قوله تعالى «والفجر وليال عشر»، كما ورد أنها أحب الأيام إلى الله، وما أحسن أن يجتهد فيها العبد في عبادته، وقد يسر الله لنا صنوفاً من العبادات التي يمكن أن يقوم بها الفرد في هذه العشر، مثل التكبير، وحمد الله على النعم، وذكر الله تعالى قبل كل شيء، وكذلك صلاة النوافل وقراءة القرآن والصوم، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والصدقة.
مع كل ذلك الخير العظيم، فقد يلزم البعض نفسه ببعض النوافل، والاجتهادات الذاتية العبادية، ومع الوقت يعتقد أنها من الواجبات، فيلزم نفسه بما لا يلزم، وإن كان حسناً، لكن لزوم النوافل غير الراتبة، قد تؤدي عند البعض مع الزمن إلى الاعتقاد بالوجوب، ناهيك أن هناك اختلافاً بين المذاهب، وكذلك اجتهاد العلماء المعتبرين حول بعض ما ألف الناس عمله في هذه العشر المباركة، ومع توفر المادة العلمية، وسهولة الوصول إليها في بضع ثوان، إلاّ أنه لا يريد النظر إلى ما لم يألفه، فيلزم نفسه ما لا يلزم، ولن أضرب مثلاً لذلك، خشية من الجدل الذي لا جدوى منه، لكن والاهم هو الاجتهاد، وتنوع الزاد، واغتنام ما بقي من أيام معدودة في هذه العشر المباركة الكريم، جعلها الله أيام خير وبركة، واطمئنان وراحة بال على كل من يحمل قلباً طاهراً خيراً نقياً، وأن يزيل الحقد والحسد، والشر من أفئدة من ابتلي بتلك الخصال الذميمة.
الموسم الثاني، هو يوم عرفة، وهذا يوم عظيم يقف فيه حجاج بيت الله الحرام في صعيد عرفة، داعين الله تعالى بما يرجونه من رب كريم، رحيم، قادر، لطيف، قريب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويكشف هم المهمومين، ويجعل من كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، وعلى هذه الصعيد في هذا اليوم الكريم، تكون الدعوات أقرب للاستجابة، فالتفرغ لله بقلب صادق، وسريرة طاهرة، ونية صادقة، لا ريب أنها ستجد بإذن الله باباً مفتوحاً عند رب كريم يقول «ادعوني استجب لكم» فكيف بالدعاء في هذا اليوم الكريم على صعيد عرفة، وقد ترك المسلم ماله وولده وداره، وتجشم عناء السفر، مع ما فيه من نصب، طلباً لمغفرة الله ورضوانه، ورجاء من فضل الله وعطائه، فهو رب كريم دعا عبده فاستجاب له بالذهاب للحج، ويرفع يديه إليه راجياً ما عنده.
تذكرت ذلك اليوم الذي كنت فيه على ذلك الصعيد في فصل شتاء بارد، وكل يجتهد في دعائه ورجائه، ولم يغب عن ناظري منظر رجل من مصر الشقيقة، وهو منذ أن حطت أقدامنا على ذلك الصعيد، حتى بدأ في الدعاء، ولم أره قط توقف سوى هنيهة يسيرة لشربة ماء، أو أكل يسير على عجل، فأحسبه ان شاء الله من المقبولين، وكانت الدموع تنهال من عينيه ولا تكاد تتوقف، أحياناً يجهش بالبكاء فيختلط الدعاء بالبكاء، فيجر من حوله إلى البكاء أيضاً والتضرع، والموسم الحالي، وقع في صيف حار شديد الحرارة، وهذا إن شاء الله أكثر أجراً، فالأجر على قدر المشقة فيما هو خير.
الموسم الثالث هو موسم النحر، وعيد الفطر، والنحر عبادة، ورمزية رائعة، وقد ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، احدهما عن نفسه وأهل بيته، والآخر عن أمته، والأضحية لمن لم يكن في الحج لمن قدر على ذلك، وفيها خير كثير، اساسها التقرب إلى الله، ثم ذلك التواصل الجميل بين الأهل والجيران، والأحباب.
لقد رأيت في بلادي الكريمة، وفي بلاد أخرى كريمة أيضاً، من يظن أنها واجب حتى انني قد عرفت من يستلف مالاً ليشتري أضحية، ومنهم من يبيع بعض ما يملك هو أو زوجته حتى يحصل على مال يشتري به أضحية، ومن العجب أن بعض الدول قد ألف أو اعتقد أنه لابد أن يذبح أضحيته بنفسه، حتى أن النساء يذبحن أضحياتهن بأنفسهن، وقد تعودن على ذلك منذ الصبا، وأحياناً لدى بعض الدول، يكون للناحية الاجتماعية دور في الدفع بالالتزام بالأضحية.
هذه المواسم ثلاثة رائعة، جعلنا الله فيها من مقبولي الدعاء، وأن يديم علينا الأمن والأمان، والطمأنينة وراحة البال، وأن ييسر أمور جميع المسلمين، ويرد الحجيج إلى ديارهم، سالمين غانمين.