د. جمال الراوي
في هذه الأبيات تلخيصٌ عجيب لعزّة النّفس، وقد أجاد الشافعي -رحمه الله- في وصف معنى عزّة النّفس:
وأتْرُك حبّها من غير بُغضٍ
وذاك لكثْرةِ الشّركاء فيهِ
إذا وقعَ الذّباب على طعامٍ
رفعتُ يدي ونفْسي تشتهيهِ
وتجْتنبُ الأسودُ ورودَ ماءٍ
إذا كان الكلابُ ولغنَ فيهِ
وقد ورد في القاموس بأنّ مرادفات العِزّة هي: أَنَفَة، اعْتِزاز، افتخار، شَهَامَة، شُمُوخ، زَهْوة... وقد يعتبر البعض عزّة النّفس تَقبُّل المرء لنفسه بكلّ جوانبها، الجيدة والسيئة، والكاملة والناقصة، وبخيبات الأمل والانتصارات، وعدم الاعتراف بأنّ فيها جوانب غير طيبة! بينما عزّة النّفس الصحيحة؛ هي اعترافه المرء بالجوانب السيئة فيها، ومحاولة التخلّص منها، والاعتراف بأنّها تُسيء له!
وقيل عن «وليام شكسبير»: (عزّة النّفس نقطةٌ ينتهي عندها ألف صديقٍ وحبيب)؛ لأنّه يعدّها جداراً يرتطم بها الأصحاب والرفقاء في الحياة، من الذين لا يدركون بأنّ للنفس عِزّة وكرامة وحصوناً، تُبنى بكلّ ثقةٍ وإخلاص وإتقان، يأتي إليها كلّ هؤلاء يريدون تسوّرها، أو هدمها، فيجدونها صلبة لا يمكن اجتيازها أو تحطيمها، فيرتدّون خائبين خاسرين، فينظر المرء، من فوق أسواره، فيجد العشرات منهم، ممن لم يعرفوا قيمة نفسه وقدرها!
لا شكّ، بأنّ البعض يعطي قداسةً مُبالغاً فيها لنفسه، يعاملها، بطريقة ذات حساسيّة عالية، يضع مُشعرات من حولها، تتأثّر بكلّ حركة أو همسة، فترتكس لها بشدّة!... وهذا ما يجعل صاحب هذه النّفس؛ يعيش في حالة من التيّقظ والانتباه، فلا يعود يهنأ له عيشٌ، يراقب النّاس من حوله، خوفاً أنْ يخدشوا نفسه، أو يؤذوها!
من أراد أنْ يعرف قيمة نفسه، ويحرص عليها وعلى عزّتها؛ عليه أنْ يتعرّف عليها أولاً ويتفهمّها، ويبحث عن ميزاتها ومهاراتها وقوّتها، ويعتزّ بالفضائل التي يجدها فيها، ويحاول تنميتها وتقويّتها، ويجعلها راسخة فيها، وحينها؛ ليس هناك من ضيرٍ أنْ يحبها ويعتزّ بها، ويصبح فخوراً بها، وذلك إذا وجد الجوانب الخيّرة تغلب على جوانب الشرّ فيها.
بعض النّاس تضطرب عندهم مفاهيم عزّة النّفس، فتراه يغضب لأدنى إشارة أو نصيحة، يعدّها إهانة لشخصه، لأنّه من هؤلاء الذين وضعوا لأنفسهم مِشعراً ذا حساسيّة عالية، فتمضي الأيام فيكتشف خطأ تقديره، وسرعة ارتكاسه، وقد قال عبد الله بن عمرو: (إيَّاك وعزَّة الغضب، فيضيرك إلى ذُلِّ الاعتذار. وإذا ما عَرَتك في الغضب العِزَّة فاذكر مَذَلَّة الاعتذار)؛ لأنّه من هؤلاء الذين يقعون في المحظور، فيلجؤون إلى الاستعطاف والتذلّل، حتى يداروا ما فعلوه من قبل!
وها هو «عنترة بن شداد»، يقول هذه الأبيات الجميلة:
لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ
بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
ماءُ الحَياةِ بِذِلَّةٍ كَجَهَنَّمٍ
وَجَهَنَّمٌ بِالعِزِّ أَطيَبُ مَنزِلِ
فقد تقدّم لخطبة «عبلة» لكنّ أباها رفضه، بسبب سواد وجهه، فانتفضت مشاعر عزّة النفس عنده، لأنّه يعرف بأنّ في جنباته نفساً كريمة وطيبة، وأنّ سواد وجهه لا يمكن أنْ يُغطي على فضائل نفسه، فقال:
وَاِختَر لِنَفسِكَ مَنزِلاً تَعلو بِهِ
أَو مُت كَريماً تَحتَ ظُلِّ القَسطَلِ
فَالمَوتُ لا يُنجيكَ مِن آفاتِهِ
حِصنٌ وَلَو شَيَّدتَهُ بِالجَندَلِ
مَوتُ الفَتى في عِزَّةٍ خَيرٌ لَهُ
مِن أَن يَبيتَ أَسيرَ طَرفٍ أَكحَلِ
وقد أعطى هذا الشاعر وصفاً بديعاً لعِزّة النفس، فتراه يتفاخر ويتباهى بها، لأنّه عرفها شامخة وكريمة، لا ترتضي الدونيّة لها، فقد أحبّ «عبلة» حُبّاً» صادقاً وطاهراً، وهذا لم يمنعه أنْ يُحْضر مهراً تعجيزيّاً لها، كما أراد والدها، فقد ذهب وجلب ألف ناقة من نوق الملك النعمان ملك الحيرة... فإنْ كنت لا تملك قوّة ورجولة وشهامة وفروسيّة «عنترة بن شداد»، لأنّ جسدك ضعيفٌ لا يقوى على الصعاب، فعليك -مع ذلك- أنْ تحتفظ لنفسك بعزّتها، فلا تُهنها بحجّة ضعفك وهوانك!