أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبوعبدالرحمن: كان الطيب صالح (وله مِن الاسمين نصيب) صاحبُ روايةِ (موسمُ الهجرة إلى الشمال): من أمنياتي في الْيَفاعِ أنْ ألقاه وأُحادِثه؛ وهذه الأمنية تكون عند كل طالب علم يسمع بعلماء عصره الكبار؛ فيودُّ لقاءهم يوم كانت أرجاءُ العَالَمَين العربي والإسلامي هوادِجُ مسافرة بلا تعرُّجاتٍ سود، ولا تأشيراتِ دخولٍ وخروجٍ، مع مَشَقَّةِ السفر (؛ وهو قطعةٌ مِن عذاب)، وبُعْدِ المزار.. وصاحبُ (الموسمُ) من أساتذة الجيل في الرواية والتراث وأَدَبِ الخواجات.
قال أبو عبدالرحمن: والآن بحمد الله تقاربت الأزمان والأسواق، وأصبح العالَم أسرةً واحدةً؛ فَسَهُلَ اللقاءُ بأعلام العصر؛ وكاد يَخْفِتُ ألقُ الانبهار بأعلام العصر البارزة بسبب كثرةِ اللقاء بهم وسهولتِه.. إلا أنَّ لقائي بالطيب صالح، والدكتور زكي نجيب محمود لم يفقد ألَقَه؛ بسَبَبِ الشوقِ العارِم إلى علمِهما الجَمِّ؛ فقد أتاح ذلك في ذهني فراغاً لا يملؤه غيرُ المزيدِ من محادثتِهما، والاستفادة منهما.. إلا أنَّ الدكتور زكي كان ضَحِيَّةَ فلسفةٍ خَواجِيَّةٍ تَسْتَأْصِلُ عُرى الإيمان من القلوب، ولم يُوَفَّق في الانعتاق منها؛ وقد نُشرتْ مناظرتي له في حلقتين طويلتين؛ وأثار شجوني أنَّ أستاذي الطيب صالح كان محبوراً بلقائي له بمنزلي المتواضع بالرياض، ثم عند الدكتور (غازي القصيبي) رحمه الله تعالى بلندن.. وهكذا يفعل الشيوخ مع تلاميذهم؛ فإنَّ الإمام أبا محمد ابن حزم رحمَهم الله تعالى روى عن تلميذه (أبي عبد الله الحميدي) في كتابه (البرنامج) وعُمْرهُ خمسُ سنوات؛ وذلك من باب تطييب الخاطر؛ وأنا المحبور بلقاء الطيب صالح، وقد أُعجب في تعليقاته على كُتَيِّبي (شيىءٌ من التباريح) بما سأذكره بعد قليل إنْ شاء الله تعالى؛ وقد كان تعليقه بسبب كليمةٍ قالها أخي حمد القاضي؛ وهي المنشورة بمجلة (المجلة العربية) ونصها: ((عندما تمنح [أي وزارة الزراعة] إنساناً أرضاً زراعيةً ثم لا يحييها صاحبُها، أو يحييها ثم يهجرُها: فإنها كما نَسْمَع تأخذها منه وتمنحها لغيره))؛ فعلَّق الأستاذ الطيب بقوله: ((لا أحسب ذلك إلا عدلاً في المذاهب كلها.. ولا أعلم ما هو الحكم عند الظاهريين؛ لأن ابن عقيل اعتبره قراراً تعسُّفياً، وتجميداً لتباريحه ؟!)).
قال أبو عبد الرحمن: المذهبُ عند أهل الظاهر أبعدُ من هذا؛ وهو أنَّ مَن له أرْضٌ يملكها وهي عاطلةٌ إذا عجز عن زراعتها وجاء من يقدر على زراعتها: فلا بدَّ أن يُفسِح له في إحيائها بجزءٍ من الغلة دون نقدٍ مسمى؛ وقد جرَّ عليَّ نَصْرُ هذا الرأي مشاكلَ في رسالة الماجستير؛ والذي هو غيرُ صحيح في هذا السياق دعوى سحب الأرض ممن أحياها ثم هجرها؛ والصواب شرعاً أنَّ من أحيا أرضاً فقد استقرَّت في ملكيتِه، ولا تزول ملكيتُه بهجرها؛ ومذهب الإمام أحمد رحمهم الله تعالى يشترط إذْنَ الإمام بالإحياء؛ لأنه مُنظِّم حاجاتِ المسلمين وقدراتِـهم حَسَبَ واقعِ الأرض؛ ويتخرَّج على هذا أن من أخذ الأرضَ من الإمام للإحياء فعليه الالتزامُ بشرط الأخْذِ.. وأشار الطيب إلى دلالةِ كثرة ذكري لغازي؛ لأنَّ أبا محمد ابن حزم رحمهم الله تعالى جميعاً بَيَّن في كتابه (طوق الحمامة) أنَّ تكْرار ذكرِ الشخص دليلُ المحبةِ.
قال أبو عبد الرحمن: اللهم فاشهد أني كثيرُ الحُبِّ لأبي سهيل ويارا غازي القصيبي؛ وليس الترداد كترداد كُثَيِّر لعزة، وجميل لبثينة؛ وهو الترداد الذي قال بسببه أبو محمد ما قال؛ وليس كحب (صفوان بن أمية) رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل الأمر.. أُحِبُّ (غازيْ القصيبي) مجرَّداً عن كل غرض دنيوي؛ ولو زال كلُّ غرض ما تغيَّر جوهرُ حُبِّه في قلبي.. أحبه أباً، وأحبه أخاً، وأحبه ابناً وإن كان يكبرني.. أحبه نظيفاً نظيفاً ما حفظ له بعضُ المتسرِّعين من طلبة العلم إلا الشنآنَ والإرجافَ؛ وأما الأكثرُ فيعرفون قدرَه.. أُحبُّه موهبةً وكُنَيْفَ (بالياء المثناة التحتية الساكنة المخفَّفَةِ) عِلْمٍ.. وما وجدتُ ذكياً يغلبُهُ خلُقُه ، ويَـحْجِزُه عن ثعلبياتِ الذكاءِ مثلَ غازي.. رأيتُ رجلَه تخطَّ في الأرض في لندن إعياءً من (الإنفلونزا) الحادَّةِ؛ فقلتُ كعادتي في الدِّعايةِ للثوم: (ثلاثُ فصيصات من الثوم تُعطي الجسم منعةً، والدمَ ألقاً، وتَفُشُّ الغازاتِ فَشَّ السهباءِ وادِيَ حنيفة)؛ فقال: (لو كان في الثومِ خيرٌ ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمَّاه شجرةً خبيثة)؛ فتحدثتُ بذلك في مجالسي؛ فقال أحد الأقَلِّيَّةِ: (عَجِيبٌ)؛ كأن الكلمة الإيمانيةَ مستغربة من غازي؛ فقلتُ: (عَجِيْبٌ عَجَبُكَ).. وقال غازي عن مسألة عَلْماني: (وُأفوِّضُ أمري إلى الله: إنَّ الله بصير بالعباد).. ويعجبني قولُ غازي: ((لا أبحثُ عن الثقافة الدينية في أشرطةٍ وأمامي القرآن الكريم، وكُتُبُ الصحاحِ، ومؤلفاتِ الفقهاء الأعلام)).
قال أبو عبد الرحمن: أيسمَعُ أشرطَةً مَنْ قد يحملُ قليلاً مِن علمِ غيرِه وعنده مَنْ يحملُ عِلْمَ الأئمةِ: ابن حزم وابن عبدالبر وابن تيمية وغيرهم رحمهم الله تعالى.. وصدق والله غازي في قوله عن شخصية تاريخيةٍ مظلومةٍ: ((ابن حزم الذي لم يكتشفُه المسلمون بعدُ)) ..إلا أن أبا عبد الرحمن اكتشف ابن حزم وغازياً.. وحَرَّكْتَ أشجاني ثانيةً يا طيب ابن طيب عن وردة جلال الرومي عندما قال في المثنوي شعراً تُرْجِم بهذا النثر:
[دعْ شرحَ حالِ الوردةِ بحقِّ الله، واشرحْ حالَ البلبل الذي افترق عن الوردة.
ليس اضطرابُنا من الحزن ولا السرور، وليست حِكْمتُنا من الخيال ولا من الوهم.
إنَّ لنا حالةً أخرى؛ فلا تُنْكرْ ذلك؛ فإن الله واسعُ المغفرة.
بستانُ الحُبِّ أخضرُ ريَّانٌ دون ربيع أو خريف.
فيا صاحبَ الوجه الجميل أدِّ زكاةَ الوجهِ الجميلِ، وأعِدْ لنا حكايةَ القلب الممزق!!].
قال أبو عبد الرحمن: ورْدةُ جلال وبُلْبُلُه: غيرُ السنباطي، وعبدُالوهاب محمد، وأحمد رامي، و(اسْأَلْ روحَك)، و(هجرتك).. القوم عندهم نبْع وصفاءٌ وإشراقة وهِزَّاتٌ ذواتُ ألحان؛ إلا أننا معشر الظاهريين لنا بابان طويلان في العقيدة: أحدُهما العلم، وثانيهما السلوكُ؛ والعلمُ تلقٍّ إلا ما تُرِك لمواهِبنا واجتهادنا وليس ذوقاً؛ والسلوك اتِّباعٌ إلا ما كان من شؤون دنيانا؛ والجمالُ له معنى عند الرومي؛ لأنه فيضٌ من الأجْـمل، وكيف نكره صنَّاجَة (وِداد) لأم كلثوم ونحن الذائبون في مواويلها، وما بعده أحلى مَوَّالاً؛ ولكننا نخاف على المسيىءِ أكثرَ مما نرجو له، والكرمُ في معاملة الربِّ سبحانه وتعالى؛ وإنما أُمِرنا بالخوفِ على من كثرتْ سيئاته؛ وسيزداد طمعنا له بمقدار ما يُسعِفُنا السلوك الحسن؛ لعلها ترجح الكِفَّةُ في الموازنة، وليس من يكون في ظِلِّ العرش كمن يُلْجمه العرقُ، وليس من يدخل الجنةَ بدءاً كمن يُـحْبس عنها؛ فإن كان الحبسُ بتطهيرٍ في النار: فذلك ما يزيدنا وجلاً؛ وإلى لقاء قادِم إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، و عنهم ، وعن جميع إخواني المسلمين -