الهادي التليلي
منذ نشأة تمثل الفكر الإغريقي للواقع وميكانيزمات تسييره انطلاقًا من العلاقة بين العلوي والدوني أو بين الدوني والدوني، وهي معادلة محكومة بإطار مرجعي أساسه منطقي حتى وإن كان تفكيره خارج دائرة المنطق الأرسطي؛ لذلك كان التعريف والتدليل المفهومي يبدأ غالبًا بما ليس هو وصولاً إلى التعريف بمكونات المعرف، سواء كان وجودًا في الذات أو وجودًا للذات، أي إن الذات تحدد علاقاتها بنفسها وتحدد ماهيتها بما هي هي. هذا من جهة، وتعلق وجودها من حيث علاقتها بالآخر، أي بما ليست هي من جهة ثانية. وظهور دلالة التعريف بالخلف، أي تعريف الشيء بما ليس هو، وهو مفهوم اشتغل عليه أهل الرياضيات وعلوم المنطق حتى صار آلية منطقية أساسية فكان تعريف الشيء بما ليس هو أساسًا مهمًّا في تحديد المفاهيم أكثر من كونه مصطلحًا للتعريف، خاصة بعد تعدد جبهات مفهوم التعريف، فليس الشيء هو إلا إذا عرف بالمفاهيم المحايثة التي تحده.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا وإن كان السؤال لا يطرح تفسه أبدًا، ويحتاج ضرورة إلى داعٍ يستدعي طرحه، هو: ما داعي الحديث عن العقل الحذائي؟ ولم الاستعاذة عن إطلاق مفهوم الفكر الحذائي بما أن الفكر هو التجسد الموضوعي للعقل؟ وما الدلالة المرادة من الحذائي؟ وما علاقة الطرح بالمشهد السياسي الحالي؟ والإجابة فعلاً هي لا يمكن أن تتنزل إلا في سياق مخصوص إذا ما أردنا تنسيب المفهوم في إطار أريد له أن يكون معبرًا عن رأي وموقف ما، فإذا كان تعريف العقل يتحدد ويتعدد بتعدد وجهات النظر، سواء كانت مثالية أو واقعية أو غيرها، ولا يكفي المقام للحفر فيها، وإنما نكتفي بما هو آلية إدراك العالم والأشياء.
والمفهوم الثاني هو ما أردناه ترجمانًا لموقف ما من العالم والوجود في لحظة راهنة ونعني به مفهوم الحذائي الذي لو أخضعناه لآلية التعريف بالخلف أي تعريف الشيء بالضد وبما ليس هو نقول إنه ليس الحذاء المجاور على اعتبار القائل مرت حذائي أي مرت بقربي أو بجواري، ومن ثم المقصود ليس المنطق الذي يرى العالم في ما ليس هو وبالتالي خارجا عن الذات، ذلك العقل الذي يرى الحقيقة في غيره وجواره، وتحدد الذات بما يتحقق في غيرها الذي قد يلبس لباس عدد من البلدان والشعوب التي في قرارها وتمشيها تكون على مقاس الآخر المجاور فلا رأي يختلف عن الآخر المحايث ولا فكر يمكن أن يتحدد إلا بتحديد ملامح الآخر المجاور هذا الذي قد يتنزل في خط عدد من الدول التي تستفيد من هذا التموضع وهذه النمذجة التي يمكن أن تكون في خانتها كندا واليابان في العلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية في السياق الجغرافي أو الفكري؛ فالبلدان الاشتراكية على غرار الصين والاتحاد السوفييتي وكوريا الشمالية تتمايز في سياق خط سياستها الخارجية بالانسجام الناجم عن هذا التجاور الفكري والتقارب الأيديولوجي فبالآخر المحايث جغرافيّا أو فكريّا تتحدد هوية الأنا..
وهذا ما لم نرم الإتيان عليه في رحلتنا إلى العقل الحذائي حيث إن المعنى السطحي القريب لدلالة الحذاء قد تكون أقرب لبوابة المعنى البعيد والعميق لتقصى وتشخيص واقع مألوف نحاول رؤيته بطريقة غير مألوفة حيث إنه في الواقع البسيط هو أن الرجل تلبس الحذاء وفي منطق الحفر في دلالة العقل الحذائي يكون الحذاء يتلبس بالرجل ففي الأول الرجل واحدة والأحذية متعددة بمعنى أن من يخرج من مسجد إسلامي أو معبد بوذي يلبس الشخص الواحد الحذاء الذي على مقاسه وهو من اختار القيام بهذا الفعل وفي منطق قراءة المشهد السياسي منطقيّا يستوقفنا خط صنعته العلاقة والتوازنات في القوة والنفوذ حيث يصبح الفاعل في العملية والمشهد هو الحذاء الذي يتلبس بكل الأرجل هذا الزئيقي الذي تتحدد مقاساته بالواقع والمصلحة والغاية فيكبر ويصغر حسب المقاس لأنه في الحقيقة هو يتلبس ويأسر الآخر بقوة ناعمة نعومة الأفاعي ويتلون بلون لابسه تلون الحرباء. هذا الوعي والعقل الذي صار مهيمنًا في عصرنا الحاضر، والذي تعد ترسباته الفارسية مدرسة في التمكن من صاحب الجاه من موقع الضعيف المقدم للخدمة التي تمكن الآخر من الراحة وتمكنه هو من الاستبداد بالقوي المتمكن ومن ثمة التملص من حالة الضعف إلى لحظة قوة مستمدة من المتمكن ظاهرا. وهنا يحضرنا بلاط ابن سعدان الذي عانى ويلاته أبو حيان التوحيدي والبعوضة التي تدمي مقلة الأسد حسب ابن المقفع الفارسي هي ذاك الفارسي في البلاط العربي آنذاك. الحذاء هنا عقل عميق يتوقى المصادمة ويقهر بالحيلة القوة الجبارة وهو ما يتجلى خاصة في عصرنا الحديث بالقبعة الصهيونية التي تسير كثيرًا من قرارات العالم وهي متلبسة بالرجل القوية في العالم.
ولكن وعلى عمق الدلالة ليس هذا ما نرومه من طرحنا لهذا المفهوم بالشكل الدقيق للمعنى ولكيمياء الطرح فالذي نريده تحديدًا ونحمل معنا القارئ إليه هو أقرب من هذا بكثير حيث إن الإنسان العادي سطحي الوعي والإدراك أميل إلى رؤية الواقع بقناع والسير على الأرض بجزمة حتى وإن كانت الأرضية من سجاد أو حرير لأن التفكير والوعي عنده مرتهن بخوف ورعب من مواجهة العالم إنه الاستكانة والركون إلى وسائط سهلة وقوالب جاهزة في فهم العالم إنه الوعي بأن العالم يكون أفضل بلا ألم الاكتشاف والمعايشة إنه احتلال المألوف والستاتيكي للأنا هذا العقل المترفه الذي لا يرى ضرورة ملحة لاكتشاف العالم وأنه لا يحتاج لمغامرة المعايشة طالما أن الحذاء الذي يلبسه نوعيته عالمية وأمريكي الصنع إنه رؤية الأشياء بعيون الآخرين دون فهم أو تفحص أو تدقيق فليس ما يقوله الآخر هو الصحيح اليقين إنه ما يستجيب لمصلحته والسير بحذائه والتفكير بعقله على أرضك وواقعك ليس دائمًا هو الحقيقة فواقعك عشته أنت وتعيشه وحذاؤهم وإن كان قد صمم بجلود أصلية فبجلود حيوانات بعيدة كل البعد عن بيئتك والأعمى الذي يرى العالم من خلال العصا حتى وإن كانت العصا غالية فإنها لا يمكن أن تكون بديلاً عن مغامرة تحسس العالم واكتشافه. وما يدهش أن التسويق المجاني لهذا الحذاء قد يكون فعلاً من قنوات وفضائيات الكوبيباست التي من قلة احترافيتها تسوق حتى لمن تحاول فضحه وكشف ألاعيبه لأن العقل الحذائي الذي تسيره قوالبه من هناك وشفراته بعيدة عن إنتاج وعيها الخالص. وهنا يستوقفنا التقرير الأمريكي بخصوص قضية خاشقجي الذي قال فيها القضاء السعودي كلمته ونشر البيت الأبيض سابقًا رأيه وقراره ونتيجة لمحاصصة ومزايدات حزبية بين الديمقراطيين والجمهوريين تمت محاولة الحفر فيه من زاوية لا ترى الواقع ولا تتحسس طبوغرافيته وجغرافيته وإنما بحذاء ديمقراطي نسبة للحزب الديمقراطي الحاكم في أمريكا وليس العالم.