لعلي أبتدئ بما يدور في ذهن الجماهير عندما يتناول كتاباً أو صحيفة أو يقرأ تغريدة أو يستمع لكاتب في مقابلة تلفازية، أو خطيب ينقل رأيه عبر أثير الإعلام أو يستخدم أي وسيلة جماهيرية من أجل الحصول على ما يشبع جوع المعرفة لديه ويوجه سلوكه لذلك نجد أن الجماهير دائماً ما تحمل في عقليتها تساؤلات كثيرة تبحث فيها عن إجابات أو تأكيدات أو إثباتات لأفكار تتبناها أو معلومات من أجل أن تقنعها عن فكرة كانت تحملها وتريد في نفس الوقت معلومة تدحض تلك القناعات, هذا بعض ما يدور في خلد كثير من الجماهير الذين ينصتون ويبحثون عن المعلومات والمعارف من أفواه الأقلام أو المتحدثين، لذا وجب على الكاتب ومن يحمل هم نقل المعرفة والعلم والتحليل والاستنتاج أن يضع عدة معايير للكتابة من أجل الوصول لهدف واحد فقط يعتبر جوهر العملية الكتابية, هذا الهدف يتمثل في نقل الفكرة من ذهن كاتبها إلى ذهن قارئة أو متلقيها من الجماهير بكامل قناعاتها مع وضع مساحة لمناقشتها وقبولها أو رفضها، بحيث يتم استيعاب كيف وصلت القناعة للكاتب وبمعنى آخر تفهم وجهة النظر وعدم محاربتها لأنه لم يتم الاقتناع فيها.
إن الفكرة عندما يقتنع فيها الكاتب ويحاول إيصالها بأسلوبه ومبرراتها أو يحاول ان يستنتج أمراً معيناً من خلال المعطيات لديه قد يتصادم مع الجماهير في معضلة تتمثل في أنه غير مقتنع بطريقة وصوله إلى قناعات كاتبها، وكنتيجة لذلك فهو غير مقتنع بما يتم طرحه لذا نجد أن هذه المعضلة كانت سبباً في إخفاق كثير من الكتاب عبر التاريخ الذين حاولوا إرسال وطرح أفكارهم لمجتمعاتهم، وتلاشت تلك الأفكار في زمانهم وتبناها زمان غير زمانهم لاستدراكهم طريقة تفكيرهم والسبب في ذلك هو انهم اكتفوا بطرح نتيجة أعمالهم وقناعاتهم كأفكار, وهنا يكمن الخلل فالأغلبية لدى المجتمعات لا تقتنع بالنتائج كمسلمات وانما تحتاج لمسببات وإرهاصات فكرية للوصول الى ما تم الوصول اليه من قبل الكاتب, وفي اعتقادي هذا سبب رفضها لأن المجتمعات وتكوين آرائهم يحتاج الى نوع من السحر الحلال هذا السحر قد اكتشفه كثير من المفكرين والكتاب الذين خلد التاريخ أسماءهم، وان اختلفنا في مضامين ما تم طرحه من حلال أو حرام لكنهم حاولوا رسم سياسة في طرح افكارهم, فالعقل وإن كان باسمه حاكما على الانفعالات والعواطف، لكن المحاجات العقلانية لا يمكنها أن تقاوم بعض الكلمات والصياغات التعبيرية. فما إن تلفظ بنوع من الخشوع واللين أو تكتب مفاهيم فيها الاستعطاف أمام الجماهير حتى تحلو آيات الاحترام على الوجوه وتنحني الجباه لها. فالكثيرون يعتبرونها بمثابة قوة من قوى الطبيعة، وسحر حلال (إن من البيان لسحرا) أو قوى خارقة للطبيعة.
فالجماهير تشبه إلى حد ما طائر العنقاء في الخرافة القديمة. بمعنى أنه ينبغي أن نعرف كيف نحل المشاكل التي تطرحها نفسيتها علينا، أو أن نستسلم لها فتبتلعنا. لذا نجد أن الكتابة والألفاظ تثير في روح الجماهير أقوى أنواع الإعصار، ولكنها تعرف أيضا كيف تهدئها. ويمكنها أن تبني هرما أكثر علوا من هرم كيوبس العتيق بواسطة عظام الضحايا فقط، أقصد ضحايا الجماهير التي هيجتها الكلمات والعبارات والكتابات. إن قوة الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها، وهي مستقلة تماماً عن معانيها الحقيقية. والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق هي التي تمتلك أحياناً أكبر قدرة على التأثير والفعل لذا وجب على من يحمل هم نقل الكلمة والمعرفة أن يجعل الجماهير أحد من يصنعون سياق تلك الكلمات وأن يشاركوا في صياغة فكرته بدل من أن يرسل إليهم أفكاراً معلبة قد تنقلب يتم معارضتها ومحاربتها بدلاً من تبنيها.