أتمثل في هذه اللحظة الحزينة بما قاله الدكتور غازي القصيبي رحمه الله:
يموت قليلاً من يموت صديقه
وإن كان يبدو الشامخ الصامد الصلبا
والحق أن رحيل من نحب يأخذ من أرواحنا شيئاً رغم تجاسرنا.. وكذا هو الحال بفقد أخي وحبيبي وتلميذي وصديقي الصديق د.ناصر بن نافع البراق، الذي أدافع دموعي وأنا أكتب فيه أحرف هذا الرثاء الحزين.. كيف لا وأنا أشيع صديقاً نبيلاً كريماً ما لقيته إلا وابتسامته تجلو كل كدر وهم.. أسكنه الله جنات النعيم المقيم وأحسن عزاءنا بفقده.
***
على مقاعد الدراسة الجامعية لمحته -رحمه الله- طالباً متدثراً بالخلق الجم والنباهة التي لا يُخطئها عقل.. أتم فصول الدراسة مغادراً الجامعة بدرجة البكالوريوس في الإعلام من كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام. لم تمض فترة طويلة حتى بدأ اسمه يلمع في بلاط صاحبة الجلالة حينما كانت شيئاً مهيباً وجباراً لا يدخل معتركه ثم يفوز بالحضور والتميز إلا من كان متسلحاً بعتاد كثير أهمه الرؤية والثقافة المبنية على اطلاع ووعي ومعرفة حقيقية.. ثم من كان لديه ذخيرة الموهبة الصحافية التي تعد أحد أبرز ركائز الميدان الصحافي.
ظلت علاقتنا قائمة على الود والتقدير بين طالب وأستاذ، ثم ما فتئت هذه العلاقة أن تحولت إلى صداقة ثم تعمقت إلى ان أصبحنا خلصاء ود وعلم ومحبة عميقة.. ناهيك عن رحلة الزمالة التي أعادت طالب الأمس إلى أستاذ اليوم، بل إلى رئيس لي عندما كلف -رحمه الله- برئاسة قسم الصحافة والنشر الإلكتروني الذي أعدت للعمل فيه أستاذاً بعد عودتي من رحلة العمل الإداري في الجامعة.
غادر (أبونواف) مرحلة الدراسة الجامعية ليدخل معترك الحياة - الصحفية والمهنية - موظفاً في وزارة الإعلام فتمكن بهمته وإخلاصه من نقش اسمه عالياً في سجل القيم المهنية والأخلاقية والاجتماعية.. ونال أعلى مراتب الثقة من رؤسائه في الوزارة حتى تم ابتعاثه لدراسة الماجستير في الإعلام في بريطانيا، وبعد عودته فتحت له أبواب العمل الأكاديمي، حيث تم تعيينه محاضراً بجامعة تبوك.
ولأن الثقة في أبي نواف -رحمه الله- أخذت تتنامى يوماً بعد آخر فقد حاز ثقة المسؤولين في وزارة التعليم ليغادر الوطن ممثلاً لثقافته ومثقفيه عبر العمل ملحقاً ثقافياً في سفاراتي خادم الحرمين الشريفين في السودان والمغرب.. وهناك بنى جسوراً من التواصل الثقافي والمعرفي والأدبي والفكري بين نخب الوطن ونخب تلك البلدان.. ثم عاد من رحلته العملية لينتقل إلى كلية الإعلام والاتصال بجامعة الإمام محاضراً، وينتظم في برنامج الدكتوراه فيها لينال الدرجة بجدارة فائقة.. ثم تتواصل خطوات تميزه الأكاديمي ليعين أستاذاً مساعداً ثم مشاركاً في قسم الصحافة والنشر الإلكتروني الذي ترأسه فيما بعد لأكثر من خمسة أعوام.
على امتداد هذه السنوات كانت صداقتنا تنمو كل يوم.. ولقاءاتنا لم تكن تنقطع، فطالما أخجلني -رحمه الله- بدعواته المتكررة لي لزيارته في المنزل، أو مشاركته تلك المناسبات التي كان يحتفي فيها بأصدقائه ويقيم المآدب التي باتت سمة لكرمه ونبله، وعلى الرغم من مهاجمة المرض له منذ عدة سنوات إلا أن روحه العالية بددت كل مظاهر الحزن التي تغلف روحه الجميلة، أصدقكم البوح في هذه اللحظة.. لقد شعر أصدقاء د.ناصر برحيله باكراً رغم ما كان يتظاهر به من عافية لكي يؤنسنا بطمأنينة الشفاء.. وهذا هو حاله -رحمه الله- فقد كان رمزاً للإيجابية والطاقة المشعة والمحبة المشاعة.
رغم معاناته التي امتدت منذ عام 2015م حتى وفاته ظهر يوم الاثنين 12 يوليو 2021م إلا أن إيمانه بالله وروحه العالية كانت تدفعني للتفاؤل، لقد كانت لقاءاتنا ومحادثاتنا وردوده الصوتية على رسائلي تمنحني طاقة إيجابية، تدفعني للاعتقاد بأنه لم يعانِ من المرض قط، لا يمكنني نسيان حجم السعادة التي غمرتني حينما لقيته في لندن صيف العام قبل الماضي 2019م بعد خروجه من المستشفى، لقد قضيت برفقته آنذاك أسبوعين كانت من أسعد أيام حياتي لأني رأيته فيها في حالة معنوية عالية، وكأنه لم يمر بذلك الوضع الصحي الصعب، كما أن من المستحيل أن أنسى اتصاله بي ليلة عيد الفطر الماضي -هو ونجله نواف- لتهنئتي بالعيد رداً على رسالة التهنئة التي بعثت بها له، حينها قلت له من كل قلبي لقد صنعت لي العيد باتصالك يا أبانواف، الآن يمكنني الفرح بالعيد.
رحمك الله يا كريم الوجه والجاه.. رحمك الله يا نظيف القلب واللسان.. رحمك الله يا نبيل المواقف، وأسكنك الجنة يا زاهي الحضور في ذاكرة من التقاك وعرفك ومر يوماً بحياتك.. وإلى جنة الخلد يا أبانواف عند رب كريم يحب الكرام، ويكرم نزلهم ويُحسن وفادتهم.. وعزائي لقلبي الحزين ولقلوب محبيك الكثر، ولوالديك وزوجك، وأنجالك نواف وتركي ونافع، الذين أخذوا عنك الطيب والكرم والأدب والخلق والمحبة.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- أ.د.فهد بن عبدالعزيز العسكر