عبدالرحمن الحبيب
متى سيعود العالم إلى الوضع المعتاد على ما كان عليه قبل جائحة كورونا؟ أم أنه لن يعود أبداً حتى لو تم القضاء على الجائحة نتيجة التغيرات التي يبدو أن بعضها سيظل مستديماً مثل انتشار العمل عن بُعد وتوصيل المنتجات إلى المنازل، وتقلص الذهاب إلى السينما والمسارح والمتاحف وصالات الفنون؟ هل ستظهر مرحلة جديدة لهذا العالم؟ وما مستوى عودة العالم إلى الوضع ما قبل كورونا؟
لمعرفة ذلك ابتكرت مجلة الإيكونيميست «مؤشر الوضع العادي العالمي» (The global normalcy index) لتتبع درجة عودة السلوك إلى الوضع «الطبيعي». بصورة عامة انخفض المؤشر العالمي في مارس 2020 حين فرضت أغلب الدول قيودًا صارمة على مواطنيها، إلى 35 من 100 نقطة في أبريل 2020، قبل أن يتحسن تدريجيًا خلال الأشهر التالية. الشهر الماضي (يونيه 2021) بلغت النقاط 66، مما يشير إلى أن العالم قد قطع نصف طريق العودة تقريبًا إلى حياة ما قبل الجائحة.
يتكون المؤشر من ثمانية فروع، مقسمة إلى ثلاثة مجالات. المجموعة الأولى هي النقل والسفر: النقل العام في المدن الكبرى؛ مقدار الازدحام المروري فيها؛ وعدد الرحلات الدولية والمحلية. الثاني ينظر إلى الترفيه والتسلية: كم من الوقت نقضيه خارج المنزل؛ إيرادات شباك التذاكر للسينما (مقياس لحضور السينما)؛ وحضور الأحداث الرياضية الاحترافية. والثالث هو البيع بالتجزئة والعمل: الإقبال على المتاجر؛ وشغل مكاتب العمل (يقاس بإقبال أماكن العمل في المدن الكبرى).
لم يعد النشاط العام إلى طبيعته الكاملة في أي من البلدان التي تتبعها المؤشر (50 بلداً من أكبر اقتصادات العالم)، رغم أن بعض المجالات اقتربت من مستوى طبيعتها السابقة، مثل الوقت الذي يقضيه المرء في الخارج عاد بنسبة 95 % لوضعها المعتاد، والبيع بالتجزئة (91 %). كما بلغت بعض المجالات مستوى قريب من حالتها السابقة مثل العمل في المكتب ووسائل النقل العامة (80 % لكليهما).. كذلك انتعشت مستويات الازدحام المروري أيضًا (72 %).
كان العمل عن بعد والاجتماعات الافتراضية وتوصيل المنتجات والمواد إلى المنزل سمات بارزة من مظاهر فترة الوباء. ويُعتقد أن مثل هذا الوضع سيستمر، إذ يراهن معظم موظفي المكاتب على المرونة المستمرة في مقدار الوقت الذي يقضونه بين مكان العمل والمنزل؛ فقد لا تعود معدلات إشغال المكاتب إلى المستويات السابقة أبدًا، لكن كان الإقبال على البيع بالتجزئة قويًا بشكل ملحوظ منذ منتصف العام الماضي.
أما أكثر المجالات التي ما زالت بعيدة عن العودة إلى وضعها الطبيعي فهي الحضور الرياضي (17 %) وحضور السينما (23 %)، فعندما كانت عمليات الإغلاق في أشد حالاتها صرامة، في أبريل 2020، أدى إغلاق دور السينما والملاعب الرياضية إلى انخفاض النشاط في تلك الأماكن إلى الصفر. لقد كان طريق التعافي بطيئاً منذ ذلك الحين، وقد لا تتعافى دور السينما تمامًا حسب التقرير. كذلك الرحلات الجوية بلغت نسبة العودة 29 % فقط ولا تزال معظم الرحلات الجوية متوقفة بسبب القيود الحكومية..
هناك فروقات كبيرة بين البلدان، وقد لا يكون من المجدي تتبع ترتيب البلدان لأنها تتغير باستمرار حسب موجات الوباء المتغيرة سواء داخل البلد أو خارجه مما يدفع البلد لإقامة إجراءات احترازية.. على سبيل المثال، الصين هي البلد الوحيد التي عادت إلى نفس مستوياتها السابقة ما قبل كورونا لكن لفترة وجيزة خلال احتفالاتها بالعام القمري الجديد في فبراير، ويرجع ذلك جزئيًا إلى عائدات شباك التذاكر المحطمة للأرقام القياسية حسب تقرير المؤشر، لكن البلاد الآن تحتل مرتبة متوسطة بين البلدان الخمسين. أما آخر قائمة في المؤشر إلى شهر يونيو الماضي فاحتلت المقدمة هونج كونج ونيوزيلندا، في درجة العودة لوضعهما «الطبيعي» حيث عانت كل منهما من عدد قليل نسبيًا من الوفيات، بينما ماليزيا التي تعاني من موجة حادة من الإصابات الناجمة عن سلالة دلتا فتقع في مؤخرة الترتيب (27 نقطة) بعد تايوان (44 نقطة). أما في الوسط حيث النقاط في السبعينيات فنجد حوالي ثلث البلدان ومن بينها السعودية، حتى السويد التي قيل عنها كثيراً إنها لم تلتزم بالاحترازات ومارست حياة طبيعية فهي تقع بالوسط (72 نقطة).
«ما بعد كورونا: من أزمة إلى فرصة» هو عنوان كتاب صدر قبل أشهر لمؤلفه سكوت جالوي بروفيسور التسويق بجامعة نيويورك، يطرح فرضيتين رئيسيتين: الأولى هي أن أقوى تأثير للوباء هو تسريع الحاصل، مثل العمل والتعلم والطب عن بعد، وهيمنة شركات التكنولوجيا، وزوال الأعمال التجارية التي بدون نموذج قابل للتطبيق بالمستقبل.. إذ يرى المؤلف أن الوباء لم يكن عامل تغيير بقدر ما كان عاملاً مسرعاً للاتجاهات الجارية بالفعل وتسريع اتجاهات أعمق في الحكومة والمجتمع.
الأطروحة الثانية أنه في كل أزمة هناك فرص وآثار مدمرة، محدداً ملامح الفرص والأزمات التي تنتظرنا، عبر تحليل «تحذيري» لمن سيصمد للفوز ومن المعرض للخسارة في عالم ما بعد كورونا. نتيجة لهذا الاضطراب سيزدهر البعض مثل الشركات الاحتكارية التكنولوجية القوية (أمازون وآبل وفيسبوك وجوجل)؛ بينما ستكافح المؤسسات الأخرى مثل السياحة والفندقة وصناعات الترفيه الحية للبقاء، فيما بعض المؤسسات الكبرى تعرضت بالفعل للإفلاس.