د. عبدالله باحجاج - صلالة:
من اللافت أن العلاقات العمانية السعودية تتجدد دون أية حساسية من البعابع القديمة التي سقطت بقرار سيادي من مسقط والرياض بعد ما اختفى من المشهد السياسي الخليجي خطر المذهبية، فهما الآن في مرحلة تأسيسية لبناء اقتصاديين جديدين بمصادر دخل مستدامة بعيداً عن النفط والغاز، وبقناعات سياسية وفكرية حديثة للدولة والمجتمع.
وهذا هو الخيار العقلاني الذي يضع البلدين في المسار الصحيح، وما يظهر فوق السطح حتى الآن من مشاريع تدلِّل على البراجماتية الغالبة التي تسود العلاقات المتجددة بين البلدين، وحاكميتها -أي البراجماتية- كما نستخلصها من المشاريع المعلنة حتى الآن، أو كما يستوجبه المسير الجديد للعلاقات بين البلدين، وفق قراءتنا لتحدياتهما الاجتماعية على المنظورين المتوسط والطويل، لا يخلو من اتجاهين أساسيين، الأول: أن تكون المشاريع المشتركة الجديدة بين مسقط والرياض مرتبطة مباشرة بنجاح تحقيق رؤيتي البلدين الإستراتيجيتين (مسقط 2040، والرياض 2030). والثاني: أن تخدم البعد التنموي الاجتماعي المباشر للبلدين.
لذلك، يستوجب التنسيق الكامل بين البلدين في تنفيذ الرؤيتين بعد ما غاب هذا التنسيق ليس بين مسقط والرياض فحسب، بل بين كل الدول الست، ورغم ذلك، فما بين الرؤى الخليجية عامة، والرؤيتين العمانية والسعودية قواسم مشتركة كبيرة، فهما تركزان على الصناعة والسياحة والطاقة المتجددة والأمن الغذائي، وبالتالي هنا منطقة تكامل ليس اقتصادياً فحسب وإنما تنموياً، وهذا تفكير نستهدف منه توجيه المسار الثنائي نحو تعميق غاية التكامل الثنائي الأبعاد «الاقتصادي والإنمائي» كونهما دولتين مركزيتين وأكبر دولتين داخل المنظومة الخليجية، وسيكون لهما تأثير مباشر على المسيرة الجديدة للمنظومة الخليجية في عقدها الخامس الجديد. وعلى المستوى الثنائي، ستجد مسقط والرياض في هذه التكاملية وتلازمية البعدين الاقتصادي والتنموي حلولاً لكثير من مشاكلهما الاجتماعية الضاغطة، كمشكلة الباحثين عن عمل مثلاً، وهما تعانيان أكثر من غيرهما في المنطقة من هذه المشكلة.
ولو اعتبرنا اتفاق مسقط والرياض على إقامة منطقة صناعية في السلطنة، بإدارة وتشغيل سعودي «نموذجاً» فإننا نجد ما تناولناه في المقدمة من إسقاط البعابع، وما نطالب به من الربط المباشر والصريح للبعدين الاقتصادي والتنموي، مجسدة في هذا المشروع الذي ينبغي أن يرى النور سريعاً، وعدم السماح بأية عقبات قد تعترض طريقه.
فالمنطقة الصناعية ستحتوي على مصانع عديدة ومتنوعة قد تصل لنحو «150» مصنعاً، وباستثمارات «1.5» مليار ريال عماني وسيتم بناء مسارات لوجستية لنقل بضائعها ومنتوجاتها بين المناطق الاقتصادية الخاصة في كلا البلدين، فهل نتصور حجم المنافع المشتركة للبلدين والشعبين الشقيقين معا؟ حياة اقتصادية جديدة للاقتصاديين العماني والسعودي، سينجم عنها بالمقابل، حياة اجتماعية جديدة للشعبين العماني والسعودي، وهذه المنطقة ستؤسس انطلاقة قوية وكبرى للعلاقات بين البلدين.
لذلك، لا ينبغي النظر للمشاريع السعودية في بلادنا على أنها حاجة استثمارية لطرفين متمصلحين، وهما المستثمر السعودي سواء كانت حكومة أو أفراداً، والحكومة العمانية كونها ستدر مداخيل جديدة على الاقتصاد العماني، وإنما ينبغي أن يكون أكبر من ذلك، وهي حجم انعكاساتها الاجتماعية الكبيرة.. كما سيأتي بيان ذلك لاحقاً فبورصة المستثمرين السعوديين قد وجهت نحو المنطقة الخليجية، وفي مقدمتها السلطنة، لذلك نحمل هنا هاجس البعد الاجتماعي لكلا البلدين، وهو هاجس ينبغي أن تتولاه أطر وكوادر متخصصة حتى لا يذوب في الغاية الربحية الطاغية لرأسمال المال.والاستثمارات السعودية الجديدة في بلادنا، هي مصلحة لكلا البلدين، فمن خلالها سنجد تكامل المقاربتين الإستراتيجيتين العمانية والسعودية، فالمسار التكاملي بين مسقط والرياض، يتيح لهذه الأخيرة ضمانة وصول صناعتها ومنتوجاتها للأسواق الخارجية الجديدة والقديمة بميزتين هما: السرعة الزمنية والأمن الجيوسياسي من خلال ما تتيح لها موانئ السلطنة المطلة على البحار المفتوحة، فالسلطنة تقع في أقصى الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية وتمتد سواحلها مسافة 3165 كيلومتراً من مضيق هرمز في الشمال وحتى حدودها المتاخمة لجمهورية اليمن. وتطل على 3 بحار هي الخليج العربي وخليج عمان وبحر العرب، وهذا في حد ذاته مكسب لأكبر اقتصاد عربي، ويطمح لأن يكون بين العمالقة الكبار وفق الرؤية السعودية 2030 ... إلخ.
وستعزّز مسيرة التكامل بين البلدين والشعبين الشقيقين بعد افتتاح الطريق البري المباشر الجاهز الآن، الذي بدوره يختصر الوقت، ويحرر عملية انتقال الأشخاص والبضائع من العبور عن طريق دولة ثالثة وربما علينا الذهاب إلى أبعد من ذلك، إذا ما تعمقنا في الاستثمارات السعودية العمانية المشتركة الجديدة بقطاعات التطوير العقاري والصناعة والسياحة والثروة السمكية والطاقة المتجددة، فهي ستعمق مبدأ الاعتماد المتبادل الذي يمس جوهر الأعماق الاجتماعية متزامنة مع الأعماق المالية والاقتصادية، مما سيقلّل من حالة التباين في المواقف السياسية أو تأثيراتها على علاقات البلدين. وتلكم المشاريع الواعدة، ستعجل من إقامة القطار الخليجي ولو في نسخته العمانية السعودية لربط المناطق الاقتصادية والحرة والصناعية بين البلدين، لذلك، نعتبر العلاقات العمانية السعودية المتجددة، متعدية الثنائية، سواء بحكم تلقائيتها أم تلاقيها مع نضوج أجندات المنظومة الخليجية، كما كشفت عنها قمة العلا بالسعودية الأخيرة، وكلا الاحتمالين واردان، وكلاهما تحتمهما التحديات الخليجية المعاصرة.
بل إننا نرى أنه ليس هناك من خيارات متاحة بين الدول الست سوى التكامل الاقتصادي والتنموي والعسكري، وصولاً للاتحاد الخليجي، ففي ذلك حفاظ على وجودية الذات الفردية والجماعية في محيط إقليمي مخيف، وإطار عالمي لم تعد فيه أمريكا القوة التي تصنع الاطمئنان لحلفائها، لذلك فقرار مسقط والرياض نحو خيار الشراكات الاقتصادية في توقيته الزمني، تناغماً مع حتمياته السياسية.
وعندما تتفق مسقط والرياض، فإن ذلك يعني أن الخليج العربي في مرحلة يتأسس على المنفعة المشتركة، وتغليب العقل، وإن بدأت بعض أطرافه خارج سياقها الآن - أي المرحلة - لكنها لن تظل طويلاً خارجه، فعندما تلمس حجم المنافع الثنائية المستدامة التي لن تتأثر فيها التوترات والأزمات الإقليمية، ستتغير القناعات حتى قبل أوانها، وعندما ينكشف وهم الاستقواء بالخارج، ستندمج أكثر في البنيات التكاملية الجديدة التي تصنعها مسقط والرياض الآن.
وعندما يتم ربط الرؤى الخليجية الست في منظومة صناعة قوة متحدة وتكاملية، فإن الكل سيكون مع العمالقة، وعندما يسعى الكل إلى نجاح الكل، فإن الكل سينعم بالاستقرار والأمان داخل حدوده بعد التحولات التي طرأت في مفهوم الأمن الداخلي، فالأمن الداخلي المستدام، يبدأ من الجوار كذلك، وله نفس الأهمية الداخلية.
عموماً، ما ظهر فوق السطح من مشاريع حتى الآن، يؤشر على بداية لانطلاقة قوية للعلاقات العمانية السعودية المتجددة، ونترقب نتائج أخرى من الوزن الثقيل، ولا نعتقد أن الانطلاقة القوية ستكون حصرياً مع الأشقاء في الرياض، وإنما نتوقع أن يكون الزخم ذاته مع بقية الأشقاء الآخرين، كالكويت وقطر والإمارات والبحرين، وإذا لم يكن ذلك مخططاً، فهو مسلك ينبغي الذهاب إليه بصورة متزامنة مع المسار السعودي، عندها ستكون مسقط محطة تحقيق الأجندات الخليجية الكبرى، وبلادنا الآن مرشحة لهذه القيادة، لعدة أسباب، أبرزها، وجود قيادة سياسية تؤمن بالعمق الخليجي العربي.. وما الانطلاقة القوية للعلاقات مع الرياض، إلا نموذج لإيمان مسقط بهذا العمق..، فهل سيساعدها الأشقاء في الذهاب به بعيدا؟