الهادي التليلي
منذ اللحظة الإغريقية وحتى ما قبلها يعد الجدل محور المشهد الثقافي والفكري، ففي سماء أثينا كانت أصداء مزلزلة لحوارات كانت في البدء سفسطائية غايتها إفحام الآخر والتغلب عليه وإبراز عضلات الأنا الفكرية ولم تكن البتة الوصول إلى الحقيقة التي يتفق على أسسها العامة المتحاوران، بل هو امتداد لإبستيمية ثقافية لتلك الحقبة حيث الصراع بين الأقوياء أصحاب العضلات وتحضر الذاكرة الجماعية بطولات تشيه في تفاصيلها الأساطير عن هرقل وسبارتاكيس وغيرهم
مع تنامي الوعي وبروز الفكر الفلسفي مع كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم ارتقى الهدف المنشود من الحوار من إفحام الآخر إلى إقناعه ومن أن هناك منتصراً ومنهزماً إلى الوصول إلى قناعة تستحق التوافق على نتائجها العامة هذا التحول من التفكير الذي ينتصر فيه المحاور على الآخر إلى حوار ينتصر فيه الفرد للآخر من ممتلك لحقيقة ثابتة يقاتل من أجل إرغام الآخر على الإقرار بها إلى مساحة جد بناءة يلتقي فيها قطبا الحوار، إنه الاختلاف البناء حسب تعبيرنا المنسجم مع أفق حضارتنا.
هذا الحوار DIALOGUE الذي أنتج في مختلف مراحله جدلا POLEMEQUE الذي وإن في تعريفه الشائع يشي بالمشادات الكلامية فإنه في السياق المعرفي الحوار حول مسائل مهمة بين طرفين يختلفان في وجهات النظر التي هي في وجه من وجوهها تعني السجال الذي هو حوار بين طرفين حول نقطة واحدة بسجلات مختلفة.
هذا السجال البناء الذي يعطي نكهة للمشهد ويوجه الانتباه نحو مسائل ثقافية وفكرية مهمة صرنا نفتقدها في مشهد المجلات والدوريات الثقافية وحتى في الملاحق الإبداعية التي صرت ترى فيها كما من الإنتاج الأدبي متراكما كما كومة ثقيلة الهضم وإن كان محتواها جد راقياً ومبدعوها من خيرة الأقلام في عصرها ولكن كما يقول المثل الفرنسي إن تتقن اللغة لا يعني أنك ماهر بالفطرة في لعبة السكرابل فالإعلام الثقافي قبل أن يكون إبداعاً ثقافياً هو فن من فنون الصحافة والإتقان فيه لا بكم المادة، بل بكيفية صنع حدث ثقافي يلفت إليه القاصي والداني من خلال تلك المادة، فأكوام المواد إذا لم تخلط بمياه الإعلام وسحرها لن تتحول إلى كنوز جاذبة، فالإعلام الثقافي يحتاج إلى ساحر يملك خيوط لعبة الإعلام من جهة والامتلاء بالشأن الثقافي من جهة أخرى، فليس كل شاعر أو روائي كبير أو ناقد فذ أو مؤرخ مشهود له قادر على إحداث نقلة نوعية في مجال الإعلام الثقافي، إذ يحتاج الأمر إلى إبداعية في الإعلام الثقافي وحس إعلامي يستطيع أن يصنع من المادة التي تصله إلى حدث ثقافي قد يكون وطنياً أو عالمياً هنا في عالمنا العربي يحضرنا مثال جد مؤثر هو الكاتب جمال الغيطاني الذي كان من مؤسسي جريدة أخبار الأدب المصرية وترأس تحريرها من 1993 إلى سنة 2011 حيث نجح في سجالات جد مؤثرة وفاعلة في المشهد الثقافي خاصة حول ابن خلدون فاستقطب عدداً من المثقفين العرب والمستشرقين وجريدة أخبار الأدب تحولت ساعتها إلى منبر لكل مثقف عميق دون الحاجة إلى المرور عبر المجلات المحكمة كانت قيمتها من خلال جدية السجالات التي تطرحها وعمقها الذي هو ختم تعميد أعمق من أي تعميد أكاديمي كذلك الإشعاع الذي حازته جريدة بويتيك الفرنسية التي افتكت انتباه كل العالم وأكبر الفلاسفة والمفكرين المهتمين بالشأن الشعري خاصة والإبداعي على وجه العموم
ولعل سائل أن يسأل ما آلية حضور السجال ومدى تجلياته وهنا تطرح عديد الزوايا للنظر في المحتوى المنشئ لهذا السجال الذي إما بملف ثقافي حارق متعوب عليه حول مدرسة إبداعية معينة أو جيل معين في الكتابة أو الإنشاء الإبداعي وهنا الأمثلة كثيرة لعل الملف المتزامن مع ظهور مجلة شعر اللبنانية التي قدمت منذ عددها الأول ملفا جد عميق حول القصيدة البديلة الذي كان مؤذناً بميلاد قصيدة النثر العربية مع كل من يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وغيرهم من هذا المنبر انفجر حراك إبداعي وصل إلى حد الكونية ولعل مؤتمر روما العالمي الذي كان للفصل في مدى أحقية هذا الجنس وعلاقته بغيره بمشاركة أبرز المبدعين من كافة أرجاء المعمورة في الحقيقة قصيدة النثر لها إرهاصاتها قديماً في الإبداع العالمي والغربي فالنص الهوكايدي الياباني والنص النثري الفرنسي وغيرها كانت مجلة شعر حضنا لميلاد نسختها العربية أيضا مجلات آفاق عربية وأقلام العراقية مع عديد الأسماء الإبداعية العراقية في الثمانينات خاصة كانت قد ملأت الدنيا وشغلت الناس
زيادة على الملاحق المحركة للمشهد هناك الحوارات ذات القيمة المضافة حوارات ذات قيمة مع عمالقة الفكر في العالم ونجومه مثل حوار جريدة لوموند مع إدغار موران حول كورونا الذي جعل مبيعات لوموند تتضاعف ومواقع التواصل لهذه الجريدة تشهد ترمدات متتالية الحوارات زيادة على كونها فن إدارة الحديث مع الآخر هي استثمار إعلامي يعود بالإشعاع والربحية على الكيان الإعلامي ويسوق له الحوار ركن لا غنى عنه في أي منبر إعلامي ثقافي ومن ينكر ذلك هو في الحقيقة عاجز على تحقيقه.
الكم الهائل من المواد الثقافية لا تعني الشيء الكثير للقارئ فمحركات البحث و»الشيخ جوجل» كما يقال مدرسة من لا مدرسة له ومعلم في كل وقت وحين وإنما فن إدارة الشأن الثقافي في الكيان الإعلامي يحتاج إلى مهارة وفن وكما يقول د. محمد لطفي اليوسفي يحتاج «مكر المبدع النبيل».
الإبداع الثقافي غالي الثمن وقيمته جد عالية إذا تم توظيفه بالشكل والإبداعية والفنية المطلوبة ويحضرني المبدع يوسف رزوقة الذي يعد فعلاً مدرسة في الإعلام الثقافي حيث أسس مجلة شعر في تونس ثم ارتقى بالملحق الثقافي لجريدة الصخافة فالحياة الثقافية واستطاع أن يحلق عالياً بتحويل المنجز الثقافي العادي إلى حدث ثقافي يخرج الجامعات من ركودها واستكانتها للدور التعليمي الذي تقوم به كوظيفة ومهنة إلى المشاركة والانخراط في المشهد الثقافي ومحركا للعصاميين من الأدباء والفنانين ليشاركوا في ملحمة نجاح الإعلام الثقافي
ولا ننسى الأعلام فاستقطاب أقلام مهمة في أركان مثيرة للجدل مهم جدا فبعض الصحف تقتنى لركن لا يتجاوز أسطر لأحد كتابها وهنا جدير بالذكر ليس المقصود تراكم أسماء خارج التوليفة الإعلامية التي تحتاج إلى كثير من الصنعة بحيث تنجز المطلوب وتسهم في نجاح الرسالة العامة والخط التحريري للمجلة أو الجريدة أو الملحق.
في العالم المجلات والصحف الثقافية تباع نسخها بالملايين والملاحق الثقافية تضاعف مبيعات كل عدد وفي العالم العربي وحتى نكون منصفين نقول في أغلبها نجدها باهتة خارج دائرة المثلث الوجودي -أنا الآن هنا - وبعيدة كل البعد عن المشهد الثقافي الكوني.
فالإعلام الثقافي استثمار في جوهره فهو استثمار فكري وثقافي من جهة واستثمار مادي فالكيان المنشئ عليه قوائم مالية سنوية تقيم الأداء كما هناك التزامات قد يؤدى عدم سدادها إلى اضمحلال هذا المنبر والأمثلة على ذلك كثيرة تند عن الحصر لهذا في صلب عملية الإنجاز لهذه الملاحق وبلورة توليفتها لا بد أن يكون حس الفاعل فيها متعدد الزوايا شديد الحكمة ثاقب الرؤية.