د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تتجلّى عظمة الأوطان فيما حققته من عمق حضاري، وما أنجبته من رجال عظماء حفروا وجودهم في ذاكرة التاريخ مآثر وبطولات وأفعالاً جليلة وعلائق وعلاقاتٍ دولية تُثمر وتُستثمرْ؛ ومعجزة بلادنا في تاريخها عندما استطاع رجل واحد هو الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه، وفي قرابة نصف قرن من الزمان، أن يشيّد مملكة مترامية الأطراف، وتوشحتْ تلك المسيرة تفاصيل مراقي الأمم الخالدة؛ وكان منهجه طيب الله ثراه ظاهرة استمالت اهتمام الراصدين المتخصصين في العالم، فنثروا عنها ما يؤصل حقيقة الشخصية الملكية الاستثناء، وانطلاقاً من ريادة تجربة الملك المؤسس وثرائها، واتساع مضامينها وأبعادها؛ فإن تصدرها لمضامين المعرفة في المؤسسات التعليمية واجب وطني أكيد، حيث استيعاب سمات الحكم الرشيد الذي يتضاعف خلاله وهج أحداث التأسيس والبناء والحضارة الممتدة والآفاق النضرة للعهود السعودية الملهمة؛ وحتى يزهو مع كل رصد تاريخي مبهر توجه جاد لصناعة العقول الوطنية عبر مسيرة تاريخنا المشرقة؛ وكل حواس التأمل التي ترتشف مفردات ذلك التاريخ الذي أودعه الله في بلادنا طبيعة وصناعة وقوة رجال صنعوا الملك بعقول الملوك فحازوا السباق والاستباق، وحين يتم ذلك فسوف يكون حواراً جليّاً مع المتعلمين تنشط معه كل اقتباسات الولاء واللحمة الوطنية؛ وهم من استجمعوا كل طاقاتهم من أجل عمارة بلادهم منذ الأزل، فكيف سيكون الفيض حين تُحفّزُ تلك المعرفة العميقة عن تفاصيل التاريخ السعودي المجيد؟ فتاريخنا الوطني شاهد عيان عملاق لتفوقنا حكّاما وحكماء، وتاريخنا الوطني أيضاً شاهد عيان على تحولاتنا الاقتصادية عبر العهود الممتدة؛ وتاريخنا الوطني فسيفساء عشق كبرى يرصفها تاريخ الإنسان والأرض لتعلن اجتياز بلادنا لمراحل البناء الحضاري حتى عهدنا الحديث الشامخ؛ ولم يُبنَ تاريخنا الوطني على الصدف والمواقف العابرة؛ إنما هو صناعة مجد، واجتماع قلوب، وتوحيد همم؛ وليس مجرد صفحات من السرد المدعم بالوثائق والأسانيد، وليس شبيهاً بمعارض الصور الثابتة؛ إنما هو حياة دولة عظيمة اكتملت ملامحها التفصيلية ملمحاً بعد ملمح حتى أصبحت كياناً عملاقاً تخفق راياته عالياً وتستدير أيضاً على تمام يقينها، حيث تهفو لها أفئدة المسلمين حينما يلبّون داعي الله عزّ وجل لأداء شعائرهم؛ واليوم أصبحت بلادنا مزاراً سياحياً عالمياً تُنتقى تفاصيله وأصوله لينافس العالم، ولذلك فإتأصيل المعرفة بتاريخنا الوطني يُعدُّ ركيزةً جديدة لتلقّي المعرفة العميقة، فلا بدّ أن تتصدر التأليف التعليمي لتاريخنا الوطني عناوين عريضة لا يشبهها أي طرح آخر لتفرد النتاج والنتيجة! حيث تربعتْ بلادنا على مساحات شاسعة من الجزيرة العربية؛ سليمة المعتقد، طيبة العناصر نقية الاتجاه، بسطت نفوذها وحولتْ واقع الجزيرة العربية المرير آنذاك وما تعيشه من قلق إلى وحدة ذات كيان وهدف واحد، وعقيدة واحدة هي عقيدة التوحيد؛ وتعميق معرفة المتعلمين بالتاريخ الوطني مطلب تأسيسي مهما عظُمتْ العلوم الأخرى؛ وتشعبتْ واكتظتْ في واقع المتعلمين ليكون التاريخ حيّا ناطقا في مؤسسات التعليم في جميع مراحلها ومساراتها الأكاديمية ومادونها دون استثناء، وتدوينه غزيراً بتفاصيله التي رصدتها أقلام المستشرقين الأجانب؛ ورواد التسجيل التاريخي في بلادنا الذين رضعوا تاريخها واعتبروه سمة سرت فيهم مسرى أرواحهم؛ فرصدوا بطولات التأسيس وفرائد المؤسس طيب الله ثراه، وكفاح حكام هذه البلاد منذ تأسيسها، وكتب مؤرخو بلادنا بأسلوب توثيقي رصين؛ وكان انعطافهم نحو التعمق في الاستقصاء لاضطلاعهم بواجبهم الوطني أيضاً، ولقد حظيتْ فترة تأسيس هذا الكيان الشامخ «المملكة العربية السعودية» التي قادها وشكّل تاريخها الملك المؤسس عبدالعزيز رحمه الله؛ حظيت بمئات من المؤلفات أصدرها سعوديون وعرب، ومنها ما ألفته أقلام أجنبية كانت خبيرة في تدوين الأحداث والتحليل التاريخي غير السردي، ومن مصادر التاريخ الوطني أيضاً الآثار التي توشحتها حكايات الكفاح والانتصارات ونقشت عليها علامات تُحتذى وهي مؤشر على حضارات عريقة أسهمت في تأسيس تاريخ حضارتنا الممتدة في عهود بلادنا المضيئة، كما أن الملاحم الشعرية نبع آخر يؤطر من خلال النظم الشعري شذرات من تاريخنا الوطني الذي يحتاجه المتعلمون في قوالب جديدة تتماهى مع بلادنا السعودية الحديثة أيضاً.
ويحتاج المتعلمون أيضا إلى قراءات جديدة في الفكر التاريخي لكل عهد من عهود بلادنا الممتدة منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز؛ ذلك الفكر الذي قامت على أوتاده بلادنا العملاقة وهي تنعم بالسلم والرخاء وكان محيطها الخارجي يعج في ذات الوقت بالأزمات والمؤامرات والثورات؛ وحتى يكون تلقي التاريخ الوطني مجزياً ومجدياً في محيط المتعلمين فلابد من صهر مجموعة من الخطابات الثقافية في بوتقة التاريخ لتشكيل دلالات السيادة والنقاء الممتد، والذكريات الخالدة في أذهان المتعلمين، وستُؤطَر للأجيال من خلال ذلك حكايات فاخرة في الشجاعة؛ وعمق العطاء الإنساني الذي تراسل عبر عهود بلادنا على هيئة خطاب وجداني تحنُ إليه الذائقة السعودية، وحتى نجعل التاريخ الوطني مادة تسكن عقول المتعلّمين لتقي قلوبهم الحر والقرّ!! وحتى يتلقَّى المتعلمون مرايا نفوسهم؛ وجذور انتمائهم فلابد من تطوير التلقي في ذاكرة الأجيال حتى نحقق صعوده المثير للدهشة؛ ولعل وزارة التعليم في حراكها المعلن نحو الوعي بالتاريخ الوطني تتبنّى حاضنة تُعنى بتدريس ذلك التاريخ وتطوير التلقي بآليات غير تقليدية في مؤسسات التعليم العام والعالي التعليمية.