حمّاد بن حامد السالمي
* كان محور كلامنا في مقال يوم الأحد الفارط تحت هذا العنوان: (المشكل الإيراني: تغول فتوغل https://www.al-jazirah.com/2021/20210704/ar2.htm )، ذلك أن سعي الجمهورية الإيرانية طيلة أربعين من السنين لتحقيق قوة عسكرية متفوقة؛ والوصول إلى تصنيع وامتلاك أسلحة نووية وصواريخ بالستية؛ دافعه في الأساس عدواني لا دفاعي، وموجه للجيران العرب ليس إلا، انطلاقًا من ضغائن وإحن وأحقاد تاريخية، تضج بها صدور الفرس الغالبين على الشعوب الإيرانية منذ قرون وقرون، فكل قائد أو حاكم عربي؛ جال بجيوش الفتح تلك الديار؛ هو عندهم مكروه ملعون، ليس هذا فقط.. بل هم يدعون إليهم نسب علماء من أصول عربية، وينفون عن العرب كل مزية حضارية، ولم يوفروا صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا زوجاته أمهات المؤمنين من الشتم واللعن، حتى صار هذا جزءًا من عقيدتهم التي يدينون بها والعياذ بالله.
* اللافت في هذا الردح القميء؛ أن الشخصية العربية العظمى التي تتصدر مكاره القوم ومكرهم؛ هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. (عقدتهم التاريخية)، الذي في عهده فتحت فارس عام 15هـ في معركة القادسية، بقيادة سعد بن أبي وقاص، ومقتل رستم فرخزاد، وسقوط الإمبراطورية الفارسية، لكن الفرس؛ ما لبثوا أن دسوا لهذا الخليفة العادل من بني جلدتهم من الموالي: (أبو لؤلؤة فيروز الفارسي) مولى المغيرة بن شعبة، الذي طعن الخليفة بخنجر ذات نصلين ست طعنات، وهو يُصلي الفجر بالناس، في ذي الحجة سنة 23هـ، ثم حُمل إلى منزله والدم يسيل من جرحه، وذلك قبل طلوع الشمس. وحاول المسلمون القبض على القاتل، فطعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم ستة، فلما رأى عبد الرحمن بن عوف ذلك؛ ألقى رداءً كان معه على أبي لؤلؤة، فتعثر مكانه، وشعر أنه مأخوذ لا محالة، فطعن نفسه منتحرًا. وبذلك دفن أبو لؤلؤة فيروز الفارسي، أسرار المؤامرة والدوافع إليها، فاختلفت الروايات حسب ما يستنتجهُ المؤرِّخون.
* هذه الحادثة؛ التي أودت بقائد عربي إسلامي فاتح لبلدان كثيرة في العراق وفارس والشام وفلسطين ومصر وغيرها؛ على يد مملوك فارسي؛ جسدها بكل ما فيها من آلام وحسرة وعِبر؛ الشاعر الكبير (حافظ إبراهيم)، في قصيدته العُمرية العجيبة من البحر البسيط، في حوالي (187 بيتًا)، فهي معلقة عُمرية شهيرة في تاريخ العرب وآدابهم وشعرهم. بدأها بقوله:
حَسْبُ القَوَافِي وَحَسْبِي حِينَ أُلْقِيهَا
أَنِّي إِلى سَاحَةِ الفَارُوقِ أُهْدِيهَا
اللَّهم هب لي بيانًا أستعين به
على قضاء حقوق نام قاضيها
قد نازعتني نفسي أن أوفيها
وليس في طوق مثلي أن يوفيها
فمر سري المعاني أن يواتيني
فيها فإني ضعيف الحال واهيها
* وقبل الدخول في وصف الحادثة المؤلمة؛ يلم الشاعر الكبير بعدل عمر، الذي أدهش مندوب كسرى إليه في المدينة المنورة، عندما وجده ينام تحت شجرة دون حراسة ولا خوف ولا وجل. قال:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمرًا
بين الرعية عطلًا وهو راعيها
وعهده بملوك الفرس أن لها
سورًا من الجند والأحراس يحميها
رآه مستغرقًا في نومه فرأى
فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملًا
ببردة كاد طول العهد يبليها
فهان في عينه ما كان يكبره
من الأكاسر والدنيا بأيديها
وقال قولة حق أصبحت مثلًا
وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمِنت لما أقمت العدل بينهمُ
فنمت نوم قرير العين هانيها
* وهذا تصوير بليغ لما حدث للخليفة العادل، من قتل غيلة، وهو يسوِّي صفوف المصلين لصلاة الفجر. ومِن مَن..؟ من مولى فارسي. يقول حافظ:
مولى المغيرة لا جادتك غادية
من رحمة الله ما جادت غواديها
مزقت منه أديمًا حشوه همم
في ذمة الله عاليها وماضيها
طعنت خاصرة الفاروق منتقمًا
من الحنيفة في أعلى مجاليها
فأصبحت دولة الإسلام حائرة
تشكو الوجيعة لما مات آسيها
مضى وخلّفها كالطود راسخة
وزان بالعدل والتقوى مغانيها
تنبو المعاول عنها وهي قائمة
والهادمون كثير في نواحيها
حتى إذا ما تولاها مهدمها
صاح الزوال بها فاندك عاليها
واهًا على دولة بالأمس قد ملأت
جوانب الشرق رغدًا في أياديها
كم ظللتها وحاطتها بأجنحة
عن أعين الدهر قد كانت تواريها
من العناية قد ريشت قوادمها
ومن صميم التقى ريشت خوافيها
والله ما غالها قدمًا وكاد لها
واجتث دوحتها إلا مواليها
لو أنها في صميم العرب ما بقيت
لما نعاها على الأيام ناعيها
يا ليتهم سمعوا ما قاله عمر
والروح قد بلغت منه تراقيها
لا تكثروا من مواليكم فإن لهم
مطامع بَسَمَاتُ الضعف تخفيها
* لا تكثروا من مواليكم..! هذه نصيحة الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - وهو على فراش الموت. لكن من سمعها أو أخذ بها بعدك يا أبا حفص..؟ كثر الموالي في الدولة العباسية سواء من الفرس- وهم كثرة- أو من الروم، فأفسدوا حياة العرب والمسلمين، وأسقطوا دولهم في أكثر من قطر، وها هم اليوم يعيثون فسادًا في دول عربية عريقة، في العراق، وفي سورية ولبنان وفلسطين واليمن. ولكن.. ما أصدق قول الشاعر العربي:
الحر يأبى أن يبيع ضميره
بجميع ما في الأرض من أموال
ولَكَم ضمائر لو أردت شراءها
لملكت أغلاها بربع ريال