د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لا يتوقف الحديث عن المتنبي منذ نشأته، حتى يومنا الحاضر، ويبدو أنه لن يتوقف، وقد ألفت حوله مئات الكتب، وكتبت مئات المقالات، والحديث حول استحقاقه لهذا الجدل من عدمه، مستمر، ويبدو أن قوله:
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا
وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
لم يقتصر على قصائده فحسب، بل تجاوز ذلك إلى حياته، وطباعه، وعلاقاته مع عامة الناس وخاصتهم، ووفاته وأسبابها، وغير ذلك كثير جداً، أما شرح ديوانه فقد أشبع بحثاً وتقصياً، ونسخ عدة مرات، وظلت النسخة المكتوبة بخط يده محفوظة لدى الحافظ بن كثير الذي توفي في القرن الثامن الهجري المتوفى عام 774 هجرية.
والأغلب يقول إن لديه خصالاً حميدة تخصه، فما عرف عنه أنه زنى أو لاط، وأخرى غير حميدة ترتبط بعلاقاته مع الآخرين، فهو مرّ النفس، حاد، في طبعه غلظة، صلف، جلف، في عتابه شدة، كثير التحامل، ظاهره الكبر، والأنفة، والغرور، والزهو، يقدح اذا هجا بأشد العبارات، بخيل، شره على المال حتى أنه يحمل ماله أينما ذهب، ويكذب في شعره، لكن لم يعرف عنه أنه كذب في تعامله، غير أنه جاء في صباه بفريتين، هما التنبؤ، وادعاء النسب العلوي، وأودع بسببهما السجن ثلاث سنين، اما النبوة ، فقد فسرها من النبو أي البروز، والعلو، وذلك أمر قد نلتمس له في ذلك عذراً، فقد قال ذلك في صباه، وفسره تفسيراً نحمله فيه على حسن الظن، كما أرشدنا الإسلام، وظل يمقت ذلك اللقب، ويكره السؤال عنه، لكنه ألفه فيما بعد، ولم يعد يتحرج منه، أما ادعاؤه النسب العلوي فربما أنه يبحث عما يعلي شأنه في زمن كان للنسب شأن.
ما دفعني للكتابة عن المتنبي هو كتاب اهداه إلي مشكوراً الاخ الشريف إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمين، الذي ألف كتاباً حول المتنبي سماه «المتنبي صحيح الاقوال في سب الشاعر المتنبي، وفيه وقفتان مع الأديب محمود شاكر، والأديب طه حسين» وقد صدر الكتاب عام 2020م، وهو من القطع الصغير، وقد اتبع فيه المؤلف المنهج العلمي المتقن من كتابه الحواشي والمراجع، وغير ذلك.
الجدل حول نسب المتنبي ليس قليلاً، وقيل حوله الأقاويل، لاسيما أن المتنبي لديه اعداء كثر، بسبب غلطته، وشراسة طبعه، وبذاءة لسانه، وهو الذي يلتقط الناس كل بيت شعر يقوله، فما يكاد يخرج من فمه حتى يتلقفه الناس، ويصبح على كل لسان، ويبقى على مر الزمان، كما أن علماء الدين من فقهاء ومحدثين، يرون في شعره ما لا يقبل شرعاً.
الكتاب يتمحور حول نقطتين أن الشهرة والاستعاضة في النسب مقدمة على غيرها، والثانية أن المتنبي جعفي قحطاني، وتكاد تجمع المصادر أن والد المتنبي اسمه حسين، ويلقب بعيدان، كان يعيش في الكوفة في محلة اسمها كندة، وأنه خامل الصيت، يعمل سقاء يحمل الماء على بعيره.
وفي رأيي أن هذه المهنة لا تعيبه، بل شرف أيما شرف، فمهنة السقاية خير من الوقوف على أبواب الكرام، أو اللئام، للحصول على الطعام، فالكريم قد يعطي بمقدار، وقد يعتذر عن التكرار، أما اللئيم، فيد مغلولة، ولسان ينهر، ووجه عابس مستكبر، والمجتمع لا يمكن أن يقوم على حاكم، وعالم، وأديب، فلا بد من سقاء، وجزار، وحداد، وبناء، ومزارع وغيرها من المهن التي تنهض بالأمم، وتوفر للناس قوت يومهم، وبناء مساكنهم، فهم بحق جنود لصناعة مجتمع قادر على العيش الكريم.
وعلماء الدين رأوا في بعض شعره ما ينم عن سوء عقيدته، ومن ذلك قوله:
أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي
أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي
وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الله
وَما لَم يَخلُقِ
مُحتَقَرٌ في هِمَّتي
كَشَعرَةٍ في مَفرِقي
وأرى أن ذلك شعر نتمنى أنه لم يقله بهذه الصيغة، أو كما قال تلميذه ومحبه ابن جني «هذا غلو نستعيذ بالله منه»، أما أنا فأحمل قوله على طبيعته الغارقة في الزهو، والكبر، والتعالي، وأنه سليم السريرة، لكنه شاعر، والشاعر يقول ما لا يفعل، وما لا يعتقده أن يقبل، لكنه قول شاعر، وأعذب الشعر أكذبه، كما يقال، فلعله يكذب حيث تجاوز في شعره، ولو آخذناه بهذه المقولة، فماذا نقول عن الشاعر بشار بن برد، وابن زيدون الذي يقول، راداً على دعوة المعتمد بن عباد له:
وَيا فَرْطَ بأوِي، إذا ما طلَعْتَ
فَقُمْتُ أُقَبّلُ تِلكَ اليَدا
ورَدّدْتُ لَحظِيَ في غُرَّة ٍ
إذا اجْتُلِيَتْ شَفَتِ الأرْمدَا
وطاعةُ أمْرِكَ فرضٌ أرَاهُ
مِنْ كُلّ مُفْتَرَضٍ، أوكَدَا
هيَ الشّرْعُ أصبحَ دِينَ الضّميرِ
فلوْ قَدْ عَصاكَ لقَدْ ألْحَدَا
وحاشاي منْ أنْ أضلّ الصّرَاطَ
فَيَعْدُونيَ الكُفْرُ عَمّا بَدَا
وما قرأت عن أحد من أهل الاندلس أنه شكك في عقيدة ابن زيدون، لأنهم يعرفون أنه قول شاعر مشهور بالمديح، ويبدو أن الأندلسيين كانوا أكثر تسامحاً من المشرقيين.
لم يكن للمتنبي الشهرة التي نالها لأنه علوي، أو جعفي أو كندي، أو من بني سليم ، أو لقيط كما يقول طه حسين أو علوي كما يقول محمود شاكر، لكن لأنه كان ماهراً جداً في موهبته الشعرية، المليئة بالحكمة، والمدح، والقدح، والوصف، والبحث، عن جواهر المعاني في اعماق الأفكار والفلسفات، فالمهارة هي سر النجاح في كل شيء كبر أو صغر سواء الشعر، أو الادارة، أو البناء، أو غيرها.
كان الكتاب شيقاً سهلاً مختصراً، لا يباع وإنما يهدي فمؤلفه لا يريد منه مردوداً مالياً، إنما اضافة علمية حول شخصية فذة، ما زال عشاق الأدب يتجادلون حولها، ويكفي جدال طه حسين، وتلميذه محمود شاكر، فطه حسين يقول إنه لقيط، بينما يقول محمود شاكر إنه علوي، والمتنبي بمهارته الشعرية الاعجازية التي صنعها في القرن الرابع الهجري حيث ولد عام 303م وتوفي عام 356 هجرية، أبقت النحاة، والادباء، والنقاد، يتحدثون عنه حتى يومنا هذا، ولم يمنعهم عن ذلك أصله من أمه وأبيه والذي أراه أنه غير معروف النسب لأنه لم يفخر به قط، وهو الذي يتلمaس كل سبل الفخر، لاسيما أن الجدل حوله قائم، ولم يمنعه كبره، وشراسة طبعه، وبخله وهكذا كان وسيظل كل ماهر يسطر اسمه في سجل التاريخ.