أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الاستعاذةُ بالله سبحانه وتعالى استغاثة به (وأَنْعِمْ اللجوءُ إلى الله سبحانه وتعالى) من شَرِّ الوسواس الخنَّاس، وقد بيَّن ذلك إمام أهل الظاهر الإمام (أَثِيرُ الدين أبو حيَّان محمد بن يوسف الأندلسي) -رحمه الله تعالى- في كتابه الفحْل (البحر المحيط)؛ فقال: أُضِيْفَ الرَّبُّ [سبحانه وتعالى] إلى الخنَّاسِ؛ لأنَّ الاستعاذةَ مِن شرِّ الوسواس في صدورهم، فهم استعاذوا بربِّهم مالكهم وإلاههم كما يستعيذ العبدُ بمولاه إذا هَمَّه أمْرٌ.
قال أبو عبدالرحمن: على جلال الإمام الظاهريِّ الأندلسيِّ: فقد فاتَه أنَّ الأدْنَى؛ وهو مولاه من بني آدم لا يُساوَى بالاستغاثة بربِّ العالمين سبحانه وتعالى؛ فقال في كتابه البحر المحيط (21-539-540): ((الوسوَاس، قالوا: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيْطَانِ؟؛ والوسواس أيضاً: ما يُوَسْوِسُ به شهواتُ النَّفْس، وهو الْهَوَى المُنْهِيُّ عنه.. والْخَنَّاسُ: الرَّاجِعُ على عَقِبه، المُسْتَتِرُ أحْيَانًا؛ وذلك في الشَّيْطَان مُتمكِّنٌ، إذا ذَكَرَ الْعَبْدُ الله سبحانه وتعالى تأخَّرَ؛ وأمَّا الشَّهَوَاتُ فَتَخْنِسُ بالإيمانِ، وبِلُمَّةِ الْمَلِكِ، وبالْحَيَاءِ؛ فهذان الْمَعْنَيَانِ يَنْدَرِجَانِ في الْوَسْوَاسِ، ويكُونُ مَعْنَى {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}: مِنَ الشَّيَاطِينِ وَنُفُوسِ النَّاسِ، أَوْ يَكُونُ (الْوَسْوَاسُ) أُرِيدَ بِهِ الشَّيْطَانُ.. [انظر كتاب (المحرر الوجيز) 5/540 بنحوه]، وَالْمعنى: الْمُزَيِّنُ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، فَيَكُونُ {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}، تَبْيِينًا لذلكَ الْوَسْوَاسِ.. قَالَ الله سبحانه وتَعَالَى {عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [سورة الأنعام/112].. وقال قَتَادَةُ: إنَّ مِن الإنْسِ شَيَاطِين، وَمِن الجِنِّ شَيَاطِين؛ فَنَعُوذ بالله مِنهمْ.. [انظر (النكت والعيون 6/379، وأخرجه عبدالرزاق في تفسيره 1/216، وابن أبي حاتم في تفسيره (7816)].. وقال أبو ذَرٍّ لِرَجُلٍ: هل تَعَوَّذْتَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ؟.. [أخرجه أحمد (21546)، والنسائي 8/275، وفي إسناده مجهول ومتروك]، وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَسْواسِ: اسْمٌ بِمَعْنَى الْوَسْوَسَةِ، كَالزِّلْزَالِ بِمَعْنَى الزَّلْزَلَةِ وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَـ (وِسْوَاسٌ) بِالْكَسْرِ كَـ: زِلْزَالٍ، وَالمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ، سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ وَسُوسَةٌ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا صَنْعَتُهُ وَشُغْلُهُ الَّذِي هُوَ عَاكِفٌ عَلَيْهِ أَوْ أُرِيدَ ذو الْوَسْوَاسِ.. انظر (الكشاف)4/302.. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا مَعَهُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ الزَّلْزَالَ بِالْفَتْحِ اسْمٌ وَبِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ في (إِذا زُلْزِلَتِ).. ويَجُوزُ في (الذي) الْجَرُّ عَلَى الصِّفَة، وَالرَّفْعُ وَالنَّصْبُ عَلَى الشَّتْمِ، وَ(مِنْ) في {مِن الجِنَّةِ وَالنَّاسِ} لِتَّبْعِيضِ، أَيْ: كَائِنًا مِن الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ؛ فهي في مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ ذَلِكَ الْمُوَسْوِسُ هو بَعْضُ الجِنَّةِ وَبَعْضُ النَّاسِ.. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (من) متعلقاً بـ (يوسوس)، وَمَعْنَاهُ ابْتِدَاء الْغَايَةِ؛ أَيْ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ جِهَةِ الجِنَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ النَّاسِ.. [انظر (الكشاف(4/303) وما قبله منه بنحوه].. وَلَمَّا كَانَتْ مَضَرَّةُ الدِّينِ؛ وهي آفَةُ الْوَسْوَسَةِ، أَعْظَمَ مِنْ مَضَرَّةِ الدُّنْيَا وَإِنْ عَظُمَتْ، جَاءَ الْبِنَاءُ في الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا بِصِفَاتٍ ثَلَاثٍ: الرَّبُّ وَالْمَلِكُ وَالْإِلَهُ، وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَطْلُوبُ، وَفي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ ثَلَاثٍ: الْغَاسِقُ وَالنَّفَّاثَاتُ وَالْحَاسِدُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الرَّبُّ، وَإِنْ تَكَثَّرَ الَّذِي يُسْتَعَاذُ مِنْهُ.. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا آوَى إلى فِرَاشِهِ جَمَعَ كَفَّيْهِ وَنَفَثَ فِيهِمَا وَقَرَأَ: (قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ)، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِرَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا.. [أخرجه البخاري (5017)، وأبو داوود (5056)، والترمذي (3699)، والنسائي في الكبرى (10556)، وابن ماجه (3875) من حديث عائشة رضي الله عنها]، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّفَ وَمَجَّدَ وَكَرَّمَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ذَوِي الْكَرَمِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كثيراً)).
قال أبو عبدالرحمن: ابن السبعين إذا فاءَ في هذا العمر، وصدق الإنابة، واستقام بقية حياته ملازماً الذكر شكراناً واستغفاراً، مستعيناً بالصبر والرضا على ما يصيبه من اعتلال صحة وقلة نشاط، ويعصر الألم قلبه على عُمْرٍ مضى لم يصرفه كله لعبادة ربه بالعلم النافع تعلماً وعملاً وتعليماً، ويغمض عينيه بلا إرادة منه تجاه ربه في مصلاه أو عباداته الأخرى على أنه غير قادر على سهر الليالي التي قضاها في أوشاب من العلم النافع وغير النافع، وأنه لو قدر الآن لصرفها للعلم النافع باستقراءٍ وتحقيق وتدقيق، ولبثَّ علمه للناس، وتحرَّى أوقات الإجابة، وقصارى ما عنده الندم الخانق؛ فيكون مكثراً الاستغفار، مستمطراً رحمة ربه، كثير الاستعاذة، وأجلُّ ذلك الاستعاذة من غضب الله: (أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشرِّ عباده ومن همزات الشياطين وأنْ يحضرون)، و(اللهم إني أسألك رضاك والجنة وأعوذ بك من سخطك والنار، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).. وقد يأكله الندم والغبن، وينسى دعاءَه فيخر له ساجداً، أو يرفع يديه بالدعاءِ جالساً باكياً يدعو بدعاءِ العامة مما يَرِد على خاطره من معنى صحيح غير مأثور باللفظ: (اللهم اخلف عليَّ ما مضى من عمري في غفلة ولهو وتجاوز.. مع علمي بعظمتك وعِظم حقك وكريم عفوك وشدة بطشك.. أدعوك يا ربي وأنا عبدك الظالم لنفسه، والعالم بأن عفوك أوسع).. وربما استذكر المأثور فقال: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)، وربما دعا بدعاء يونس ونوح عليهما السلام مثل {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء/87].
قال أبوعبدالرحمن: لا ريب أنَّ الدعاءَ المأثور الصحيح أولى، ولكن الله يفتح على عبده حال الضرورة والذهول والخشية بدعاءٍ صحيح المعنى.. وعليه أنْ يسامح مَن ظلمه ممن علم الله أنه يلقاه مؤمناً على الشهادتين، ويعفو بإطلاق عن جفاء ناله من أهل الصلاح حباً لهم في الله، ويشتد بغضه للكفار وأهل الضلال والشبه والبدع عن عمد، ويصغي لكلام ربه خاشعاً وجلاً مبتهجاً في آنٍ واحدٍ عند وعده ووعيده، ولا ينسى التسبيح والتقديس في كل مناسبة من آي الذكر الحكيم، ويسجل في وريقة ما أشكل عليه ليبحثه توَّاً أو في نشاطه، ويكثر الترحُّم على أمواته وأموات المسلمين، ويكثر الدعاء لنفسه ورعيته.. ولا يملُّ من النصح والتذكير، ويدقِّق المراقبة لهم بلا تنفير ولو ضاع شيء من وقته؛ لأنَّ طالب العلم شحيح بوقته.. وأما الكبائر الموبقات فمن تورط في شيءٍ منها فواجب أنْ يبادر إلى التوبة، ولا يسوِّف إلى أن تضعف دواعي شهواته؛ فهذا يُخشى عليه أن يُطبع على قلبه.. وشيبة الحمد الذي تأخرت استقامته إلى سبعين بالصفة التي ذكرتها حريٌّ بالبشرى من ربه، وحري بحسن الخاتمة، وحري بأنْ يبارك له في وقته حال ضعفه، وليس على الله بعزيز أنْ يجعله من المحسنين الذين أنعم الله عليهم؛ فيعفو الله عن كل ذنوبه، ويضاعف أجره على أعماله الصالحة في تأرجحات عمره؛ وإلى لقاءٍ عاجل إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-