د. عبد الرزاق بن حمود الزهراني
قبل أقل من ثلاثة عقود، زرت مدينة مِرِت في ولاية برتش كولومبيا، جنوب غرب كندا، بصحبة أستاذي البروفيسور لويس كارتر، وبقينا هناك أسبوعا كاملا، كان أستاذي متفرغا وجاء ليساعد في تطوير المناهج في معهد وادي نيكولا للتقنية، وهو معهد للسكان الأصليين حيث إن 95% من طلابه هم من هذه الفئة.
بعد زيارة المعهد، دعانا بعض منسوبيه للعشاء في اليوم التالي في قاعة عامة في وسط الحي الذي يتكون معظم سكانه من السكان الأصليين، مررنا على شقة شخص اسمه هانك، لم يكن طويلا، وكان مربيا شعره، وله سكسوكة، وكأنه عربي في ملامحه، وكان كثير المرح والمزاح، وكان يعد وجبة من البطاطس ليشارك بها في العشاء الجماعي.
ذهبنا بصحبته إلى القاعة، وكان الحضور متواضعا، خمسة أشخاص وسيدة معها عدة أطفال.
بدأ الخمسة في مراسم دق الطبل، أخرج هانك طبلا كبيرا بوقار من شرشف أبيض ووضعه على قاعدة لها أربعة أركان مرتفعة من الأطراف وتم تعليق الطبل على تلك الأركان، وأخرج هانك من كيس كان يحمله، عددا من العصي المغلفة بالجلد وملونة، وأعطى كل واحد من الخمسة عصا، فتحلقوا حول الطبل وبدأوا يطبلون، وكانت ملامح وجوههم يبدو عليها الحزن والألم، وأحيانا ترتفع أصواتهم وأصوات الطبل وأحيانا تنخفض، بعد الانتهاء من التطبيل، بدأوا في مراسم العشاء، أخذوا صحنا ووضعوا فيه قليلا من كل طبق، أخذته سيدة في الخمسين، ووقف الجميع على شكل دائرة، وبدأت تلك السيدة تتلو شيئا لم أفهم منه إلا اسمي (ابدل) واسم كارتر، ثم أخذ أحدهم ذلك الصحن وخرج به، وفهمت فيما بعد أنهم وضعوه خارج القاعة لتأخذه الأرواح، ولا شك أن الكلاب أو القطط أكلته.
وطلبوا منا نحن الضيوف أن نبدأ أولا، فسألت عن مكونات الطعام فأكدوا أنه خال من الكحول ولحم الخنزير، وأكدوا أن تناول الكحول أو إحضاره ممنوع بشدة في حفلات التطبيل.
بعد العشاء عدنا إلى شقة هانك، فذكر أن للتطبيل طقوسا نتذكر فيها معاناة الأجداد، ونستشعر أرواحهم تحوم فوق رؤوسنا، وسألته عن اللغة التي كانوا يغنون بها؛ فقال إنها أصوات؛ وذكر بألم أنهم أخذوه من أهله وهو صغير ووضعوه في مدرسة، فتكلم اللغة التي يفهمها فضربوه حتى كاد أن يفقد الوعي وحذروه من استخدام تلك اللغة، ويقول إنه إذا سمعها يمكن أن يفهمها، ولكنه لا يستطيع التكلم بها بسهولة، وسألت عن عدد السكان الأصليين في كندا، فقال إنهم في أمريكا وكندا لا يزيدون على المليون.
كانت حياتهم مثل غيرهم، متحضرة، سيارات وبدل وبيوت، ولا وجود لما كنت أتوقع أن أراه من خيام وريش وخيول ونحو ذلك مما كان يصوره الإعلام والأفلام، مما شكل صورة ذهنية عنهم، ومثل ذلك الصور الذهنية التي يرسمها للعرب لمن لا يعرفهم: بدو وبيوت شعر وجمال ونحوها... والله المستعان.