د.م.علي بن محمد القحطاني
الأب هو سبب وجود الأبناء في الحياة، وما الابن إلا بَضْعة من أبيه.. الأب هو شمس الحياة ومبعث الاستقرار.. وملاذ الأبناء بعد الله، وحاميهم وبه تقوى قلوبهم، وتحل الطمأنينة في حياتهم.. وهو الذي يكد ويكدح من أجل تحقيق حياة آمنة حافلة بالاطمئنان والاستقرار المادي والمعنوي لأولاده.. هو خبرة الحياة التي يحتاج إليها الأبناء.. ومصدر القوة والأمان لأولاده الصغار.. فهو في نفس الوقت مصدر الأنس والبركة لأولاده الكبار..
وللأب حق البر والتكريم، ويتحتم ذلك ويزداد عند كبر سنه وشيخوخته، قال الله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الاسراء: 24).. نعم واخفض لهما جناح الذل من الرحمة.. الرحمة التي ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عيناً، ولا يرفض أمراً.... (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا). فهي ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان.. وهو التوجه إلى الله -عزّ وجلّ- أن يرحمهما، فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب، وهو أقدر على جزائهما بما بذلا مما لا يقدر على جزائه الأبناء. للأب حق الإحسان والطاعة، وله ود الصحبة والعشرة والأدب في ألحديث وحسن المعاملة، وتلزم النفقة عليه في حال الحاجة، وتقديم الهدايا له في حال غناه، قَال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».
ولقد أوصانا ديننا الحنيف ببر الآباء حتى بعد موتهم، وبصلة من تربطهم علاقة أسرية وصحبة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنه قال َإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ وقوله». إني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ».
أسأل الله تعالى أن يرزقنا البر بوالدينا أحياء وأمواتاً، فهل نحتاج بعد هذا إلى أخذ تقاليد جوفاء وعادات لا تمت لمجتمعاتنا بصلة في البر بهما؟ وهل سنستمر في تقليدهم بالاحتفال ببقية أعيادهم؟
إن ما دعاني للكتابة في هذا الموضوع ما ضجت به وسائل التواصل الاجتماعي في اليومين الماضيين بتقليعة ما يسمى بيوم الأب حتى أن البعض ممن هم من جيلي جرفنا التيار بقوة عواطفنا لأبنائنا وأحفادنا ومسايرتهم في ذلك دون تفكير أن ما يحدث هو موجة عاتية، وأتساءل مع المحتفلين كيف بدأت فكرته؟ ومتى؟ وأين؟ أما حسب معلوماتي المتواضعة وغير المؤكدة -وهذا لن يغير من الأمر شيئاً- أن يوم الأب هو احتفال اجتماعي، يُحتفل به في أيام مختلفة في العديد من الدول الغربية، تم تحويله ليوم ديني في بعض منها. ويُحتفل بعيد الأب في الدول الكاثوليكية منذ القرون الوسطى، حيث أصبح تقليداً موروثاً، خصوصاً في أميركا اللاتينية، بعد أن جاء به الغزاة الإسبان والبرتغاليون، فيما تبنت غيرها من البلدان عيد الأب المعتمد في الولايات المتحدة الأميركية، والذي يوافق ثالث يوم أحد من شهر يونيو. وقد أقيم واحد من أوائل الاحتفالات للآباء في عام 1912 في الولايات المتحدة. وساهم في سرعة انتشاره وسائل التواصل الاجتماعي، فاحتفل مُحرك البَحث جوجل بيوم الأب في أنحاء مُختلفة من العالم في عام 2016، ويأتي هذا اليوم حسب زعمهم عرفاناً بالجميل وتقديراً للآباء بتقديم الهدايا وبطاقات التحية، وقد لا يرى أو يراسل أباه -إذا كان يعرفه أصلاً- إلا في هذه المناسبة، ولاختلاف تواريخ إقامة هذه الاحتفالية بين كثير من الدول المحتفية به وإطلاقه بشكل مرسل حتى لو كان هذا التاريخ يحمل ذكرى سيئة في حياة الأب.
طرأ في ذهني قصة بداية نصب الجندي المجهول أو قبر الجندي المجهول وهو المكان الذي يشهد تكريماً خاصاً خلال احتفالات بعض الدول، خاصة الاحتفالات العسكرية منها، ويكون ذلك بوضع أكاليل الزهور عند هذا النصب تكريماً له، وليس بالضرورة أن يكون بداخله رفات لجندي، ولكنه أقيم كرمز تكريم لكل جندي، ووجه الربط بين الحالتين أن كليهما؛ الجندي والأب في بعض الدول، حسب اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وموروثهم الديني، مجهول.
وما زال السؤال يطرح نفسه.. هل سنستمر في نسخ أيامهم وأعيادهم وما أكثرها وأخزاها؟!
صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه».
** **
- مستشار وخبير إدارة كوارث وأزمات