خالد محمد الدوس
مرَّ عام بالتمام والكمال على رحيل أبي ومعلمي الأول الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن دوس، بعد أن عاش قرنًا من الزمن وأربعة أعوام قضاها في رحاب الطاعات وغنائم العبادات.. حياة لا مناص كانت عامرة بالزهد والتقوى والورع والخشية تغمده الله بواسع رحمته.
أبي الغالي عندما نقيس الأيام وليس التواريخ فإنه في مثل هذا اليوم قد مضى عام على رحيلك يا أغلى البشر أحاسيسي تبعثرت، وكلماتي تاهت أحرفها.. بعد أن رحلت كلمح البصر وأعلم أننا فقدناك ورحيلك كان قضاء الله وقدره.. ولكن رحيلك ما أصعبه وغيابك موقف يعجز اللسان عن وصفه، والقلب عن التعبير.. وما أصعبها من لحظات عندما تفقد أغلى الناس.. ولكن ما نقول إلا ما يرضي ربنا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
نعم مرَّ عام على رحيلك يا تاج رأسي.. وسندي بعد الله في هذه الحياة الفانية.. أب الكرم والعطاء, وأب الشهامة والوفاء, أب الحنان والسعادة والأمان. رحلت جسدًا ولكن روحك، كلماتك, كلها في أذهاننا باقية وفي الذاكرة ستظل محفورة.
عاش (أبي) حياة عصامية حيث فقد والدته وهو في (عامه الثاني) وبفقد الأم في المهد يفقد الإنسان مصدر الأمان والحنان، ولكن عاش -رحمه الله- في كنف أمّ أبيه (الجدة) هيا بنت حسين العسعوس نظرًا لكثرة تنقلات (أبيه) من الرياض إلى الأحساء لأعمال التجارة في الأربعينيات الهجرية من القرن الفائت, وبعد وفاة (جدته) انتقل للعيش عند عمه الشيخ محمد بن حسين الدرح (أبوحسين) رحمه الله وهو في (عامه السابع) وعاش والدي -غفر الله له- حياة السلف الصالح من القيم الدينية والفضيلة والشيم الاجتماعية الأصيلة.. فكان مضرب مثل وقدوة حسنة في صلاحه واستقامته وتنشئته الإيمانية السليمة.
كان رحمه الله تعالى أسوة حسنة ونموذجًا حيًا في تواضعه وزهده، ونبل أخلاقه ونقاء سريرته.
اشتهر بالحلم والصبر والجلد والجدية في شؤون حياته وتنظيم وقته والحفاظ على كل لحظة من عمره، كان بعيدًا عن التكلف والمباهاة، يميل إلى التواضع والبساطة السلفية والأخلاق الكريمة والخصال الحميدة بل كان قدوة صالحة في تعبده وزهده وروعه، وكان بوجهه البشوش اجتماعيًا يخالط الناس ويؤثر فيهم ويدخل السرور إلى قلوبهم ويحرص دائمًا على تذكير كل من يزوره بمصالح الدين وعدم التكاسل في استثمار الأوقات بالطاعات والعبادات, ويذكّر أن الحياة فانية ولا تساوي كلها عند الله عز وجل جناح بعوضة، وأن خير الناس من زاد رصيده في بنك الحسنات.
كان أبوالعباس بن عطاء رحمه الله يقول: (ادن قلبك من مجالسة الذاكرين لعلّه ينتبهُ عن غفلته وأقم شخصك في خدمة الصالحين لعلّه يتعّود ببركتها طاعة ربّ العالمين. ولذلك فمن جالس الصالحين تشمله بركة مجالستهم, ويعمه الخير الحاصل لهم, ومن هذا المنطلق كان مجلسه كرجل صالح يشهد زيارات أقاربه وأرحامه وكثيرًا ما تكون مجالس ذكر ونصح وفائدة ولذلك كان كثير من الأقارب والأرحام يحرصون على زيارته في بيته المتواضع ومجالسته ومجالسة الصالحين، ترياق مجرّب يؤثر في المؤمنين وينقلهم من الغفلة إلى الذكر, ومن الغيبة إلى الحضور, ومن سوء الاعتقاد إلى حسنه, ومن ضيق الصدر وهمومه إلى سعته وانشراحه. ولاشك أن المجالسة والمصادقة والزيارة في الله عز وجل سبب لمحبة الله تعالى -كما في الحديث القدسي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ والمتزاورين فيّ والمتبادلين فيّ) رواه مالك.
كان -رحمه الله- عطوفاً مع الصغار يستمع إليهم ويناقشهم ويمنحهم الوعظ والتوجيه بكل لين وأدب، كان حريصًا على تطبيق السنة في جميع أموره مستثمرًا وقته في رحاب الطاعات والمساجد. كما كان صاحب كرم وجود، يكرم كل من يزور، حتى اجتماع عيد الفطر المبارك كان يقيمه في بيته سنويًا، وذلك بعد وفاة الجد عبدالرحمن بن دوس -رحمه الله- حيث فتح بيته المتواضع لإقامة العيد أكثر من ثلاثين عامًا ولم يسمح بأن يجعل العيد يقام كل عام في بيت إخوانه دوريًا إلا بعد إصرارهم على ذلك ووافق نزولاً عند رغبتهم، ومن أجل استمرار إقامة هذه المناسبة السعيدة واجتماع الأقارب والعوائل كونه كان يمثل عميد عائلة آل دوس، ولذلك حرص على توثيق روابط صلة الأرحام من خلال الزيارات الاجتماعية والمناسبات الفرائحية, ولذلك نقل -رحمه الله- لأبنائه شمائل التقوى وخصال الفلاح ومشاعل الخير، وكان مرشدًا لهم ومقوّمًا ومعلمًا بالفطرة مستخدماً مبدأ الوسطية في منهجه التربوي بين الشدة والحزم، وبين جانب الرفق واللين والتسامح, خاصة في أمور الدين التي كانت تعتبر بالنسبة له يرحمه الله في منهج تربية أبنائه خط أحمر.
كان يؤمن أن القرآن الكريم منهج تربوي كامل فحرص على إلحاق أبنائه منذ صغرهم في دور التحفيظ حتى لو كان الأمر يتطلب بعد المسافة لإيمانه التام أن القرآن الكريم منهج يربّي الإنسان الصالح للتعامل مع الحياة الدنيا، ومع الحياة الآخرة. إنه منهج يعترف بكل الطاقات التي في الإنسان: الروحية والعقلية والبدنية والنفسية والاجتماعية ويعمل بالتالي على الاستجابة لحاجاتها وإشباع رغباتها في الحدود الشرعية التي جاء بها ديننا الإسلامي الحنيف. نعم إنه منهج رباني قابل للتطبيق عمليًا على أرض الواقع.
اللهم ارحم (أبي) تحت الأرض واستره يوم العرض, واجعل قبره روضة من رياض الجنة, والحمد الله على قضائه وقدره.