نحن نعيش في زمن التشتت الذهني وعدم التصديق الكلي بسبب كثرة البيانات والمعلومات والأخبار وسيل من الشائعات وتصدر أنصاف المتعلمين لساحات في جميع وسائل التواصل الاجتماعي حتى أصبح صوت الحكمة والحقيقة شبه غائب في كثير من المناسبات والمواقف التي تحتم وجوده مما جعل الكثير من الجماهير تدور في فلك تحليلات ناقصة المعلومة وغير مستندة على البراهين على أيدي المتحمسين لنقل تلك المعلومات أكثر من صنعها بدون تثبت لأن العقل بطبيعته دائماً ما يكون جائعاً ومتعطشاً للمعلومات والأخبار، وفي غياب المعلومة الدقيقة أصبح من السهل أن يُصطاد العقل بكل شائعة أو معلومة تنتشر بشكل جنوني في بضع دقائق، فالأفراد والجماعات يرغبون في أن يكونوا مثل الجميع، ولا يفضلون أن يظهروا وكأنهم خارجون عن الركب، فتجد عشرات المحللين الذين يحاولون تقديم هذه الشائعة سواء بوعي أو بالأغلب دون وعي وبقوالب مختلفة إلى الجماهير مساهمين في انتشارها وخروجها عن سياقها المعرفي الصحيح، وأصبح سباق التصدر والظهور والتعليق على حدث أو فعل هو الهدف الأساسي وبناء التعليقات الساخرة ديدن كثير من الطرح الموجود في الساحة والذي يعد أحد الأساليب الجديدة لانتشار الشائعات وغياب صوت الحقيقة والحكمة، هذه الشائعات والتي تعد من الجيل الرابع من أجيال الحروب ليس بسبب وجود الشائعات كمفهوم وممارس فهو قديم قدم البشرية ولكن بقدر ما هو سلاح اُنتهج أسلوب جديد في نقله بأساليب مختلفة وبأيدي المجتمعات والناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام , فشائعة هدفها الحالي أن تكون معروفة المصدر مشوهة الحقيقة وبالتالي يسهل ترويجها, ولعل البورت وبرستان أوضحا في كتابهما سيكولوجية الشائعة: في أن الإشاعات تمتلك خاصيتين وهي الغموض والأهمية، وبالتالي تنتقل من شخص إلى آخر، دون أن يتطلب ذلك البرهان والدليل لاعتمادها على العنصرين المهمين. إن هذه الأساليب التي تمارس من قبل الناشرين والصانعين للأخبار المزيفة والشائعات المغرضة تتطلب إستراتيجية تخاطب بها عقول الجماهير لبناء الوعي لديها بمجريات الأمور ويتطلب ذلك إحداث ضجيج يبعثر أدوات الإشاعة ومصادرها ويعتمد على غريزة العقل البشري، فالإنسان هو الإنسان سواء في الشرق أو الغرب، ولكن البيئة والظروف والخليط من المكونات الجيوسياسية والنفسية هي ما تشكل لديه الشخصية، وعلى ضوئها تصبح السيطرة أو التحكم أو التحريك في عقلية هذه الجماير تُبني على ذلك. غوستاف لوبون -المفكر الفرنسي- يطرح تساؤلاً حول عقلية الجماهير، مضمونها هل ينبغي أن نأسف لأن العقل لا يقود الجماهير؟ في الحقيقة أن العقل متى ما مكن من الأدوات واستخدم أساليب متنوعة استطاع أن يقود الجماهير من خلال إقناعه وتبنيه تلك الأفكار, ولكن مع ما أسلفنا من الانتشار الكبير للمعلومات غير الحقيقة كان لابد من إحداث (ضجيج الحقيقة) فالهدف هنا ليس إحداث ضجيج وتشويش على عقل الجماهير بقدر ما هو تفريغ عقلية المجتمع من الأصوات والأفكار المزعجة وغير الدقيقة والذي يعتمد في رأيي على ثلاثة مكونات أساسية ليكون له تأثير فاعل وهي أولاً: توسيع دائرة الحقيقة وذكرها ليشمل جميع فئات المجتمع وبمختلف طبقاته وبرواية واحدة تنتقل بين الجميع لأن الإشاعات تعتمد في انتشارها على اختلاف الروايات. ثانياً: تنوع أساليب إحداث هذا الضجيج والتنوع ليس فقط بالأدوات والوسائل وإنما أيضاً في كتابة محتواه وطريقة تقديمه وعرضه وعدم الاعتماد على نماذج مترهلة قد أثبتت فعاليتها في فترة معينة لأن الحياة متطورة وسريعة الوتيرة وبوسائل مختلفة جميعها تحاول أن تجذب العقل لها، فالرسالة هي الوسيلة. ثالثاً: هو تكرار هذا الضجيج ليصبح هو السائد وهو القاضي على كل الإشاعات والأكاذيب فينتقل من ضجيج غير مرغوب فيه إلى حقيقة مقتنع فيها واضح السياق ضمن التثبت المراد.