أ.د.عثمان بن صالح العامر
عندما تقود سيارتك تحاول أن تكون دقيقاً في أخذ المسافات بينك وبين من يقفون بجوارك أو عن خلفك أو أمامك، ولذا فأنت تنظر في المرايا بين الفينة والأخرى، تركز كثيراً قبيل انتقالك من مسار لآخر أو تجاوزك لسيارة تسير بجانبك، أو حين تهم بالانعطاف يساراً أو يميناً، حتى لا تتسبب في حادث - لا سمح الله.
هذا الحال يجب أن ينطبق على حياتنا كلها، فالمرايا لا بد أن تلازمنا في جميع أوقاتنا، ومع كل الناس الذين نتعايش معهم، وفي كل المواقف التي تمر بِنَا بلا استثناء. وقبل أن ننظر في هذه المرايا التي هي المرجعية لنا في سلوكنا اليومي يجب أن نعرف بدقة: ما المسافة التي يجب أن تكون بين الطرفين، المفتي والسائل، المدير والموظف، الأستاذ والطالب، الزوج وزوجته، الأب وأبنائه وكذا العكس، الأخ وأخته، الشركاء، الأصدقاء، العاطفة والعقل، الشخصي والوظيفي، رجل الأمن والمتهم، الطبيب والمريض، المدرب واللاعب، الأصدقاء بعضهم مع بعض، الزملاء في العمل، بين... بين... صدقوني هذه إشكالية مجتمعية معقدة عويصة، كثيرون منا لا يملكون بوصلتها، ولا يعرفون ضابطها، ولذلك تقع مشاكل عدة جراء عدم ضبط المسافات بيننا وبين غيرنا، ونتيجة عدم اكتراثنا بالأمتار التي يجب أن تفصلنا عن الآخر التي تختلف طولاً وقصرًا باختلاف المتغيرات الأربعة (الشخص والزمان والمكان والحال).
أترك القارئ الكريم يعيد قراءة صفحات حياته الشخصية ويحاول أن يتوقف متأملاً في المسافات التي وضعها هو لنفسه مع من حوله، ما ضابطها؟، ما مرجعيته في تحديدها؟، كيف يقيسها؟، وهل نجح في ضبط مرآته الخاصة حين تحركه في دروب الحياة المختلفة ليخرج من دنياه بسلام ويسلم من كلام الناس فتاة كانت أو شاباً، امرأة أو رجالاً؟.
ليس هذا الكلام لطرف دون آخر بل هو لطرفي المعادلة معاً، حتى يتحقق بتحديد المسافات والنظر في المرايا التوازن الحياتي، ويعظم الإنتاج، وتحسن الثمرة، ويتحقق الهدف المأمول لدى الطرفين، ويسعد الكل، وتزدهر الأوطان، وتقل المشاكل التي تصل مجلس القضاء، ولا تصبح العلاقة بين الطرفين أياً كان هذان الطرفان علاقة صدامية أو على الأقل ضعيفة وتفتقد لروح التعاون والتكاتف والانسجام الذي به الحياة.
مشكلتنا مع المزاجي الذي تطول مسافاته وتقصر حسب نفسيته التي هو فيها هذه اللحظة، مثله الشخص البراغماتي المصلحي، والإنسان الغامض، وكذا الرمادي الضبابي، وعشاق الظل، وأشد منهم جميعاً الحسود الذي جعل جميع الطرق بينك وبينه موصدة، والمسافات -وإن اعتقدت أنها قصيرة- فهي كلما قربتها طالت مع الزمن وتراكم الأحداث ولا نهاية لها.
حاول دائماً أن تجعل المسافة بينك وبين الله قريبة جداً فأنت بحاجة ماسة له عز وجل، وهو قريب لما اقترب منه، ومفتاح القرب منه سبحانه الإتيان بالنوافل (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه)، فلننظر في المرايا التي تحيط بنا، ولنحاول أن نعيد ضبط أمتارنا التي ربما طالت بيننا وبين ربنا سبحانه وتعالى نتيجة الران الذي عشش في قلوبنا إلا من رحم الله منَّا.
لنتذكر أن المسافة بيننا وبين تركنا الدنيا لا شيء وقد تنتهي الأمتار في أي لحظة من ساعة الزمن.
أهم شخصين اجعل المسافة بينك وبينهما صفرًا، هما ( الوالدان)، فهما قضاء الله واجب الأداء بعد عبادته سبحانه {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.